الأخبار- دعاء سويدان
هكذا، بات عبد الله حمدوك ووزراؤه، بين ليلة وضُحاها، خلف القضبان، فيما أصبح الرجل الذي كانت له اليد الطُولى في إلحاق الخرطوم بـ«اتفاقات آبراهام» التطبيعية بين العواصم الخليجية وتل أبيب، حاكماً بأمره، بتزكية مصرية – إماراتية – سعودية في الحدّ الأدنى. نتيجةٌ لن تكون مستغربةً إلّا لِمَن صدّق همروجة «فرح السودان» التي رافقت توقيع اتفاق تقاسم السلطة بين العسكر والمدنيين في آب 2019 بحضور رموز الدول التي قادت «الثورة المضادّة» في العالم العربي؛ ذلك أن الكفّة بدت، منذ اللحظة الأولى، مائلة لصالح العسكر، خصوصاً بالنظر إلى غياب أيّ ضمانات تُلزمه بتطبيق ما ورد في متن «الوثيقة الدستورية»، فضلاً عن الإشكالية المحيطة بأصْل موافقة «قوى الحرية والتغيير» التي أفرزها حراك 2018 ضدّ نظام البشير على الانخراط في «شراكة» مشبوهة مع شخصيات ظلّت حتى ساعات قبيل عزل الرئيس السابق، تتقدّم قائمة رجالات الأخير، الذي ربّاها بنفسه وكبّرها وبنى لها «إمبراطورياتها»، ثمّ في لحظة، حين قلب له الدهر ظَهر المِجن، انقلبت عليه وجرّدته من عصاه «غير السحرية» بعدما نصّبت نفسها ناطقة باسم «الثورة» وهادِية لها. «ثلاثة طلبات: مشاركة حقيقية في السلطة لِمَا فعلْت مع المتمرّدين، وإعطاء مجموعتي رتباً عسكرية، وتحقيق تنمية لأهلي»، قالها «حميدتي» للبشير يوماً في أوّل لقاء بينهما في عام 2006، وبالفعل كان له ما أراد، إذ تمّت قوننة ميليشياته المعروفة بـ«الجنجويد»، ومنحْها صفة رسمية باسم «الدعم السريع»، ورفدها بالأسلحة والمعدّات، وإرسالها في المهمّات «القذرة» الكبرى، سواءً داخل السودان أو خارجه، وتحديداً في اليمن، حيث ذاع صيتها في ميدان الارتزاق لصالح السعودية والإمارات.
كلّ ذلك أعمت عنه القوى المدنية التي قادت الحراك أبصارها، مُقرّرةً في غفلة من الزمن وضع بصمتها على وثيقة سرقة «الثورة»، وتبديل لون الدماء التي سالت من أجل إنجاحها، وتجيير زخمها ونبضها لصالح شرذمة مستقوية بالخارج. وعلى امتداد الأشهر التي أعقبت «الغلطة الأولى»، ظلّت تلك القوى تتصرّف كشاهد زور لا يقوى على تحريك ساكن من أجل وقف المسار الذي كانت البلاد تدبّ فيه. حتى عندما بدأت عملية جرّ الخرطوم إلى تطبيع العلاقات مع العدو، باللقاء «الفاتحة» الذي جمع البرهان برئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، في مدينة عنتيبي الأوغندية في شباط 2020، لم يفكّر المدنيون في ضرورة الخروج من ثوب «النعامة»، بل إن مواقف الكثيرين منهم، وعلى رأسهم ممثّلهم الأوّل في السلطة (حمدوك)، أظهرت تماهياً جوهرياً مع سياسات العسكر، بدليل أنها دائماً ما سعت إلى حصر الخلاف في قالب تقني، عناوينه الرئيسة: «لم نكن نعلم»، و«المجلس السيادي غير مخوَّل»، و«الأمور المصيرية متروكة لسلطة تشريعية منتخَبة». ظنّت «قوى الحرية والتغيير» أنها بهذا تستطيع نيل رضى الغرب عليها، وتأليب الأخير على سلطة العسكر الذي كان مُنح هديّة رفع السودان من «قائمة الدول الراعية للإرهاب» وتوطئة سقف ديون البلاد بمقدار 50 مليار دولار ومنحها قرضاً بقيمة 2.5 مليار دولار، والبقاء في «المنطقة الآمنة» التي جدّد تحديدها المبعوث الأميركي إلى القرن الأفريقي، جيفري فيلتمان، قبل أيام قليلة من الانقلاب، بـ«المُضيّ في الحوار» غير المتكافئ للتوصّل إلى موعد جديد لتسليم السلطة.
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم على القوى والشخصيات التي لا تزال تنتظر «غيث» واشنطن: لماذا قد تنفض الولايات المتّحدة يديها من دعم حُكم تعهّد بنقل التطبيع مع إسرائيل إلى مستوى «اتفاقية شاملة»، بدأت بوادرها قبل نحو شهر من الآن بتصفية المؤسّسات الاقتصادية القائمة على الأراضي السودانية والتي يُعتقد أن لها يداً في دعم القضية الفلسطينية (راجع: الخرطوم تمهّد للتطبيع الشامل: مصالح إسرائيل الأمنية برعايتنا، الأخبار 25 أيلول 2021)، كما بتعزيز التعاون الأمني والاستخباري منعاً لأيّ عمليات تهريب أسلحة إيرانية من البحر الأحمر عبر السودان ومصر وصولاً إلى قطاع غزة؟ صحيح أن درْس عمر البشير يثبت أنه مهما عظُمت التنازلات من أجل الوصول إلى «الجنّة» الأميركية (التخلّي عن المقاومة، الافتراق عن إيران، تقسيم السودان…)، فقد يذهب جميعها هباءً في لحظة تقدير أميركي مختلف للموقف، وهو ما بدأ التلويح به سريعاً عبر تحذير فيلتمان من أن «أيّ تغييرات في الحكومة الانتقالية بالقوّة تُعرّض المساعدة الأميركية للخطر»، إلّا أن الثابت إلى الآن أن المدنيين قد أكلوا ضرباً كبيراً على عين واشنطن، وأن مَن سيخطّ المسار في السودان إلى أجل غير معلوم، هم حلفاء إسرائيل، ولا أحد غيرهم.