الجامعة وحرية الضمير: ثلاث وقائع من سيرة حسن حنفي

حسن حنفي
ناصر كامل|المدن

ستنحصر سيرة حياة حسن حنفي (1935- 2021)، المختصرة، للغاية، هنا، في مجال واحد، فقط، من بين المجالات الشاسعة التي حاول أن يضرب فيها بسهم، وهو الدرس الجامعي: طالبا وأستاذا، وهذا سيتيح إمكانية عرض “درس” مختصر للحياة الفكرية في مصر لنحو سبعين عاماً، كما عاشها، الراحل قبل أيام.

ثم إنها ستنحصر في ثلاثة مشاهد: الأول، يلخص المناخ العلمي في الجامعة قبل أن يدخلها الطالب حسن حنفي، الثاني، يعرض أعوام الدرس الجامعي، والثالث يلخص موقف الأستاذ؛ خلال أزمة كبرى.

***

حين بدأ حنفي درسه الجامعي الأول في قسم الفلسفة، في كلية الآداب (1952) كانت الجامعة قد شهدت 3 وقائع، دالة، كانت تجزم، بالقطع، أن لا حرية للبحث العلمي والتفكير الحر داخل أروقتها، وربما كان ذلك الدرس الأول، ما قبل الجامعي، الذي وعاه الطالب المستجد، ثم وقعت الرابعة، الأشد جزماً، وحنفي رئيسا لقسم الفلسفة. وإذا إضفيت، واقعة، جرت خارجها، اتسع زمن “الدرس المختصر”، الذي يقارب المائة وثماني سنوات، ليشتمل على خمس وقائع كبرى، وآلاف من الوقائع الأقل شهرة، وربما ملايين، من تلك العابرة.

خمس وقائع لا شك أن حسن حنفي قد وعاها جيدا، وبذل كل مهاراته كي لا يزل قلمه، فيناله ما نال أبطالها، وقد نجح.

خمس وقائع، جميعها، متعلقة ببحث علمي يدرس الإسلام. جرت أربع في الجامعة، وقد كانت تحمل اسما مختلفا، في ظل عهود سياسية واجتماعية، متباينة، وهذه بعض إشارات، لها:

كان منصور فهمي (1886- 1959) يستعد لمناقشة أطروحته للدكتوراه التي تقدم بها إلى جامعة السوربون في شتاء 1913، تحت عنوان “حال المرأة فى التقليد والتطور الإسلامي”، وكان أن ورد تقرير إلى الجامعة الأهلية (تأسست عام 1908)، التي ارسلت فهمي إلى باريس للحصول على الدكتوراه، ويعود إلى القاهرة ليكون ضمن كادرها التعليمي التدريس، وقد كانت تعتمد، بالأساس، على أساتذة أجانب، وكان التقرير يدعي أن أطروحة المبتعث “معادية” للإسلام، كما إنها تحت إشراف أستاذ يهودي (ليفي برول)، فأمرته الجامعة بتأجيل المناقشة، لكنه تجاهل الأمر، وتقدم بما أنجزه، وعاد لوطنه، وجامعته “الأم”، ليجدهما حانقين، والاتهامات الموجهة إليه تُظهرها الصحافة في عناوينها الرئيسية: ملحد، عدو الدين، مفسد للشباب، ذيل للمؤامرة اليهودية على الإسلام، وفي مكاتب الجامعة وجد نفسه مفصولاً، ودون عمل. وظلت الإطروحة بلغتها الفرنسية، ونشرت في كتاب بالفرنسية، أيضا، حمل عنوان “المرأة في الإسلام”، ولكنه لم يترجم للعربية إلا سنة 1997 (أصدرته منشورات دار الجمل، من ترجمة رفيدة مقدادي).

الواقعة الثانية أكثر شهرة من أن تُجهل تفاصيلها، إنها أزمة كتاب طه حسين “في الشعر الجاهلي”، الذي أصدره بعد عام واحد من تغيير اسم الجامعة من “الأهلية”، إلى المصرية (1925)، وظلت الأزمة تعصف بالجامعة لنحو ست سنوات كاملة، حتى جاء صباح 3 مارس/آذار 1932 ودعا وزير المعارف، على باشا ماهر، أحمد لطفي السيد، مدير الجامعة (المصرية)، لمقابلته، وليخبره بقراره بنقل “طه”، عميد كلية الآداب، إلى وظيفة مفتش في الوزارة، رفض لطفي السيد تنفيذ القرار، وانصرف، وبعدها بأيام، قدم استقالته.

بين واقعة “الأهلية” و”المصرية”، وقعت خارج الجامعة، واقعة، أعنف، وأوسع مدى، وأكثر تعقيدا، وربما كانت أكثر شهرة من واقعة “العميد”، حين نشر القاضي الشرعي، والشيخ الأزهري، علي عبد الرازق كتابه “الإسلام وأصول الحكم” (1925)، فهاجت هيئة كبار العلماء في الأزهر، وأخرجته من زمرة العلماء وفصلته من العمل كقاضٍ شرعي.

الرابعة وقعت عام 1947، وكان ضحيتها (بالإضافة، بالطبع، إلى البحث العلمي، وحرية الفكر) باحث الدكتوراه محمد أحمد خلف الله، الذي كان يستعد للدفاع عن إطروحته “الفن القصصي في القرآن”، وأخبرته إدارة جامعة فؤاد الأول (تغيير مسماها من “المصرية” عام 1940، بقرار ملكي من الملك فاروق الأول؛ نجل الملك فؤاد الأول) تغيير موضوعها، فلم يجد له نصيرا، يستقيل احتجاجا.

هذه الوقائع، الأربع، شكلت البيئة العلمية والفكرية المهيمنة على الدرس الفلسفي، الذي طرقه حسن حنفي، بعد شهرين، فقط، من قيام ضباط في الجيش بحركتهم، في 23 يوليو/تموز 1952.

ليست الكتب الأربعة اشتعالا فلسفيا، لكن وطأتها كانت على الدرس الفلسفي تحديداً، ذلك أن الفلسفة تحتاج أكثر من أي بحث آخر إلى فضاء غير ذلك. فهل تصلح مثل هذه البيئة لغرس مخالف؟

***

سندع الواقعة الخامسة، لمرحلة لاحقة من سيرة حياة حسن حنفي، المختصرة، للغاية، هنا، فهي تمثل المشهد الثاني، أما المشهد الأول فتصوره، سيعتمد، كلية، على بعض ما تذكره أستاذ ورئيس قسم الفلسفة، السابق، في كلية الآداب- جامعة القاهرة، في كتابه” ذكريات: 1935- 2018″، عن أعوام الدراسة الجامعية، فعن عامه الأول كتب حسن حنفي: “خَرجتُ من السنة الأولى خاوي الوفاض، لم أتعلَّم شيئًا”.

ماذا كان يفعل الطالب حسن حنفي، إذا، وكيف كانت الجامعة في العام الدراسي (1952- 1953)، ماذا عن الطلبة، أولا؟ يقول: “كنت فرحا بالجامعة ليس فقط بما يُلقَى في المُحاضَرات التي كان يغلُب عليها الطابع المدرسي، ولكن أيضًا بالنقاشات خارجها، على الحشائش في الحرم الجامعي، هايد بارك أخرى… وكانت التقاليد لا تسمح بالاختلاط الكلي؛ فالطالبات في ناحية، والطلبة في ناحيةٍ أخرى، ومن يُخِل بالتقاليد يُنظر إليه على أنه يَتَحرَّش بالبنات أو إليها أنها تَتَحرَّش بالصبيان… وكانت مجموعات الإخوان تقعُد في حلقاتٍ على الحشيش الأخضر في حَرَم الجامعة”.

وماذا عن الأساتذة؟: “هم غالبًا من الشبَّان، الجيل الجديد؛ مثل أستاذ الاجتماع الذي كان يرتجل وُيناقش، وكان ماركسيًّا يُسمَّى شريف، مثل محمود أمين العالم، ولويس عوض، وعبد العظيم أنيس، أو الإخوان مثل توفيق الشاوي من الحقوق”.

بيئة علمية وسياسية متنوعة، قد يكون فيها بعض الثراء، والفاعلية، لكن هنالك، أيضا، بعض التزمت الاجتماعي، فماذا حدث، للطلبة أولا، ثم للآساتذة؟

(بالنسبة للطبلة): “فُرض نظام الفصلَين الدراسيَّين في العام، ليس لأسبابٍ علمية بل حتى ينشغل الطلبة في المُذاكَرة ولا يكون لديهم وقتٌ لِلمُظاهَرات”.

(بالنسبة للأساتذة): “تم تطهيرهم (فصلهم من الجامعة: الشيوعي، وما يشتبه في أنه كذلك، والأخواني، ومن يشتبه في أنه كذلك) في أزمة مارس 1954”.

ماذا عن الطالب حسن حنفي، ما ميوله الفكرية، وما سؤاله الأهم، في عامه الدراسي الأول؟ يقول: “لم أكن نشِطًا إلى هذا الحد، واختَرتُ الإخوان اختيارًا فكريًّا أكثر منه سياسيًّا.. وكان السؤال الباطني الذي يدور في نفسي: وما عيب الجمع بين العلم والأيديولوجيا، يسارية أو إسلامية؟ وهل ينفع تدريس العلوم الإنسانية كالاجتماع والقانون والفلسفة دون أيديولوجيا؟ وما العَيب إذا ما أَدَّت الأيديولوجيا إلى العمل السياسي؟ وما العيب في أن يسمع الطالب أيديولوجياتٍ مختلفة ويُفكِّر فيها بدلًا من أن يحفظ كتابًا مُقرَّرًا؟”.

ما كانت نتيجة تلك الميول، وذلك السؤال؟: “اقتفَوا (رجال الأمن) أَثَري، وتَتبَّعوا حَركاتي وسَكناتي، فوجدوني إخوانيًّا مُسالِمًا، ولستُ خطرًا”.

كيف تصرف؛ خاصة في عام الأزمة، أي في عامه الدراسي الثاني (1953- 1954)؟ : “كان الجو مُتوتِّرًا بين الإخوان والثورة على مدى سنتَين منذ اندلاع الثورة. وحَدَث الانفجار في عام 1954 بمناسبة رفض الإخوان المُعاهَدة التي عَقدَها عبد الناصر مع بريطانيا بالانسحاب من قناة السويس ولكن لها (بريطانيا) الحق في العودة (إلى معسكراتها في قناة السويس) في حالة “الضرورة القصوى” (كما نصت المعاهدة). وكان خوف القوى الوطنية (اليساريين والشيوعيين والوفديين) من عبارة “الضرورة القصوى” التي يمكن أن يكون لها عشراتُ التفسيرات؛ فهو جلاءٌ مشروط. كنت أُوزِّع نَقدَ المعاهدة في الجامعة، وفي مظاهراتٍ كُبرى خَرجَت من الجامعة إلى كوبري الجامعة وهي تهتف بسقوط اتفاقية الجلاء. وكان عبد الناصر وزيرًا للداخلية في ذلك الوقت وعَينُه على السلطة فأَمَر بإطلاق النار على الطلبة المُتظاهرِين على كوبري الجامعة فتَفرَّقوا وأعادوا التجمع في ميدان عابدين، وشاركتُ في المظاهرات”.

وماذا حدث في العامين الدراسيين التاليين؟: “لم تكن هناك مظاهرات حتى عام 1956، سنة التخرُّج والمغادرة إلى فرنسا بحرًا. وظَلَلتُ صامتًا، كاتمًا الخوف في قلبي وفي سلوكي، ومُقسِّمًا العالَم إلى أبيضَ وأسود، حقٍّ وباطل، صوابٍ وخطأ، كما فعل سيد قطب في مرحلته الأخيرة بعد أن كان شاعرًا، قصاصًا ناقدَا أدبيًّا ثم إسلاميًّا اشتراكيًّا ثم إسلاميًّا إخوانيًّا”.

***

صامتا، كاتما الخوف في القلب وفي السلوك، مقسما العالم إلى أبيض وأسود. هذا ما أضافته سنوات الدرس الأربع (1952- 1956) للبيئة العلمية والفكرية المهيمنة على الدرس الفلسفي المتشكلة في السنوات التي سبقتها، فهل يرجى غرس صالح منها؟

من المحتمل أن يكون حسن حنفي، المجاز للبحث العلمي في الفلسفة، وهو يغادر إلى فرنسا للتعمق، قد سمع من أستاذ ما، أو قرأ في كتاب ما، أن الفلسفة الحديثة في العالم قد نبتت في قاعات الدرس الجامعي، لا يستبعد أن يكون قد سمع، أو قرأ، مثلا، شيئا عن كتاب كانط “صراع الكليات” (1794)، الذي يقوم كله على فكرة “حرية الضمير” في الجامعة.

ومما لا شك فيه أنه وهو رئيس قسم الفلسفة في كلية الآداب- جامعة القاهرة (1988- 1994)، كان على يقين أن الفلسفة خلال أربعة قرون متصلة كانت ترتكز بالأساس على تلك الفكرة، فكرة الحرية في البحث والتفكير الفلسفي، داخل الجامعة، بالأساس.

***

في العام الأخير لرئاسة الأستاذ الدكتور حسن حنفي لقسم الفلسفة، وقعت الواقعة الخامسة؛ فقد تقدم الأستاذ المساعد في كلية دار العلوم- جامعة القاهرة، الدكتور نصر حامد أبو زيد، بعدة أبحاث للترقية، وكان أن أفضى مسعاه العلمي هذا إلى المحكمة، بدعوى حسبة تطالب بتفريقه عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس، أستاذة اللغة الفرنسية في كلية الآداب- جامعة القاهرة، وفي المحكمة طلب القاضي من الدكتور نصر أن ينطق بالشهادتين (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا نبيه ورسوله)، فرفض الأستاذ المساعد؛ لأنه يرفض التفتيش فى نواياه، فقضى القاضي بالتفريق بين الزوجين، استنادا إلى تفسيره للقانون، وبدعوى أن الدكتور نصر بحكم المرتد عن الإسلام.

كانت أزمة أبوزيد كاشفة على الفساد المطلق للبئية العلمية في الجامعة، وتهافت أي حديث عن الدولة والقانون، والمنطق الإنساني الأولى، ولكنها كانت؛ بوجه خاص، أزمة كبرى للدكتور حسن حنفي، من زوايا عدة، فالدكتور نصر يعتبر الدكتور حسن أستاذه، صحيح أن نصر درس في قسم اللغة العربية بكلية الآداب، لكن حنفي، كان بصورة ما “رائدا” له. الاثنان لا يخفيان ذلك.

ألاعيب الدولة وجدت مخرجا، ودائما ستجد، يبقي الوضع على ما هو عليه، كلمة واحدة اضيفت للقانون، انقذت نصر من الحكم، ثم كان حل المشكلة الكبرى: كيف يعود الأستاذ المساعد للجامعة، بسفر نصر وزوجته إلى الخارج، وكان أن افتتح أبو زيد، محاضرة من محاضراته الأولى، في منفاه، بنطق الشهادتين، ثم سوي الأمر “اكاديميا” فنال “الاستاذية”، لكن الجامعة لم تدعه يعود إليها، أو يخطو من بواباتها.

وعى الدكتور حسن حنفي درس الوقائع الأربع، التي جرت قبل دخوله الجامعة، وفي مواقف علنية لام الدكتور نصر، على تجاهلها. لم يطلب أحد موقفا كموقف لطفي السيد، لكن اللوم كان قاسيا، وعلنيا، ومحمولاً على وطأة أبوة، مهجورة.

هل يمكن أن تتلقى تلك البيئة أي بذر فلسفي؟

هذه البيئة، هذه الشروط، يستحيل أن يتشكل فيها فيلسوف، وفلسفة، غاية المنى أن يتناسل فيها مدرسي فلسفة، شراح، بهلوانات يلهون بتوافقات مستحيلة.

Exit mobile version