الحدث

الأكراد وتركيا: فلسطينيون وإسرائيليون

عمر قدور|المدن

في الجدل حول كركوك، الذي رافق الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان في أيلول2017، رفع أكراد سوريين شعار: كركوك قُدْسنا. من المرجح أن تكون غالبية رافعي الشعار من أنصار البارزاني، أو ممن تربطهم علاقة وجدانية بالزعامة التاريخية للبارزاني الأب، ذلك بخلاف تعبير تجتمع عليه نسبة ساحقة من أكراد سوريا وراح يتكرر في السنوات الأخيرة هو: تركيا إسرائيلنا.

قد يُقال من باب المرح أن التشبه بالفلسطينيين ليس فأل خير على الأكراد، لكن التشبيه ليس ابن السنوات الأخيرة، بل خلاصة عقود تعززت خلالها لدى أكراد سوريا مكانة القضية الكردية في تركيا، بحيث يمكن وصفها بلا تردد بأنها القضية المركزية، الوصف الذي طالما أُطلق عربياً على القضية الفلسطينية. هذا التحول في وعي القضية تزامن مع انزياح في البوصلة، من أربيل إلى ديار بكر أو جبال قنديل، ومن البارزانية إلى الأوجلانية.

في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات هبت الرياح من الجهة التركية، كانت قد عبرت أولاً كاسيتات المغني شفان، ولوقت ما رفقة زوجته المغنية كلستان قبل أن ينفصلا ويُشاع أن انفصالهما بسبب افتراقه عن حزب العمال الكردستاني. خلال تلك الفترة كانت أغاني شفان تمهد الأرض لدى شعب تربطه بالموسيقا علاقة تقترب لتكون غريزية، أغنيات حماسية قومية مثل “مَن نحنKine em” مع موهبة استثنائية كموهبته لن تشحن الروح المعنوية فحسب، بل ستنسج أو تمتّن تلك العلاقة بين جانبي الحدود، وستتكفل الموهبة حتى بتمرير أغنيات له مثل “أين صبر قلوبكمSebra dile we ka?” تحضّ على الأخذ بالماركسية وتمتدح لينين الذي نهض بها، من دون أن تأسره في قالب تلك المرحلة. أيضاً، من القومية والماركسية ستأتي الخلطة الفكرية الأولى لحزب العمال.

في عام1984 بدأ حزب العمال الكردستاني حربه في الجهة الأخرى من الحدود، في حين كان رسله قد بدأوا بالتوافد والنشاط في أوساط الأكراد السوريين، على الأرجح بعد سنوات من العلاقة الحارة بين الحزب وسلطة حافظ الأسد التي ستستقبل زعيمه عبدالله أوجلان في دمشق، وتسمح لمقاتليه بالتدرب في معسكرات في البقاع اللبنانية. بالطبع لم يكن نشاط الحزب في صفوف أكراد سوريا ليغيب عن مخابرات الأسد، إلا أنها لم تكن تجد فيه تهديداً لها، فأدبياته تنص صراحة على أن القضية الكردية المركزية هي في تركيا، وبالصراحة ذاتها تشير إلى عدم وجود قضية كردية في سوريا أو إيران، مع التأكيد على كلمة “قضية” في هذا السياق التي لا تنفي وجود ما هو دونها.

بدءاً من عفرين، راح الحزب يتمدد بسرعة كبيرة، ليصبح فيها قوة يُحسب لها حساب منذ النصف الثاني في الثمانينات. من المؤكد أن الحزب منح عفرين اهتماماً أكبر في المرحلة “التبشيرية” الأولى، لتعود عليه حساباته الصحيحة بالعائد المرجو. العامل الواقعي الذي تنبغي ملاحظته أن عفرين متصلة جغرافياً بالجانب التركي وغير متصلة جغرافياً بمناطق ذات أغلبية كردية في سوريا، وفي تلك الفترة كان ثقل الأحزاب الكردية “المتفرعة بمعظمها من البارتي” قد أصبح في منطقة الجزيرة الملاصقة لإقليم كردستان العراق.

كانت لعفرين أيضاً لدى الحزب أهمية اقتصادية، فأكراد عفرين ميسورون بالمقارنة مع أحوال باقي أكراد سوريا، وحتى الحقبة الإقطاعية فيها كانت داخلية تماماً، فالأغوات “جمع آغا” من كبار الملاك كانوا أكراداً أيضاً. في النصف الثاني من الثمانينات، راحت معاصر الزيتون كل موسم تموّل الحزب بنسبة من أرباحها المقدَّرة، طوعاً أو كرهاً. في النصف الأول من التسعينات، سيُقدَّر عدد الشابات والشبان المتطوعين من عفرين للقتال في حرب الحزب ضد تركيا بالألوف. كان هؤلاء ذاهبين عن قناعة مطلقة كفدائيين من أجل القضية المركزية، وعن قناعة بما للقضية المركزية من أولوية على ما عداها، وبحل ما هو دونها بعد حلها.

لن نجد مثلاً فهماً مشابهاً لدى أكراد العراق الذين رأوا معركتهم المركزية والنهائية في العراق، ولو أبدوا التعاطف مع أشقائهم في بلدان أخرى. من أهم الأسباب أن مناطق تواجد الأكراد في سوريا غير متصلة، ولا تشكل وحدة جغرافية إلا باتصالها عبر الجانب الشمالي من الحدود. ثمة وعي واضح، أو ضمني لدى البعض بأن القضية الكردية في سوريا معلّقة على نظيرتها في تركيا، وعلى مسار هذه الثانية التي إذا مضت في اتجاه حرب تحرير ناجحة فسيكون الانضمام إليها يسيراً بعد هزيمة العدو الأقوى “إسرائيلنا وفق الاستعارة السابقة”، وإذا اتخذت القضية الكردية مساراً ديموقراطياً ضمن الدولة التركية؟

لم يكن من إجابة لدى أصحاب “القضية المركزية” على الاحتمال الثاني، وحتى على صعيد أعمّ لم تقدّم الأحزاب الكردية تصوراً ناجزاً لمستقبل القضية الكردية رغم حدوث تطورات تستدعي مواكبتها فكرياً. ففي خريف1998 تخلى حافظ الأسد عن أوجلان، الذي سيُعتقل بعملية استخباراتية واسعة في منتصف شباط1999، وسيوقع مع الجانب التركي اتفاقية أضنة ويسلم بعض كوادر الحزب، ثم يستأنف وريثه السياسة نفسها مع دفء أشد في العلاقة مع أردوغان الذي كان في منصب رئيس الحكومة. تغيير اسم الفرع السوري إلى “حزب الاتحاد الديموقراطي” أتى كبوابة خلفية للتهرب “حسب الظروف” من اتفاقية أضنة، أكثر مما هو تغيير في عقلية الحزب الأم وهيمنته على فروعه في سوريا وإيران والعراق.

كانت الانتفاضة الكردية في آذار2004 الحدث الكردي الأبرز سورياً، فهي أول فعل سياسي شعبي واسع النطاق، من نتائجه المباشرة مثلاً الحصول على وعد بإعادة الجنسية للمجردين منها قبل عقود. وتفسيرها بإسقاط صدام والصعود الكردي في العراق يحتمل الصواب من دون احتكاره مبرراتها العديدة، والداخلية بمعظمها على الأقل للعارفين بالشأن الكردي. ينبغي ألا يغطي على ذلك الصعودُ الكردي الفاقع بعد عام2011، فعندما سلّم بشار الأسد بعض المناطق للفرع السوري من حزب العمال صيف2012، فعل ذلك وهو مطمئن إلى أن “ظهره” محمي بأنقرة التي لن تسمح بتحول تلك المناطق إلى قاعدة لحزب العمال.

إن كان مِن تغيرٍ، تحت نشوة الصعود المفخخ، فهو طمع الحزب في تحويل الشمال السوري “الذي أصبح في وقت ما تحت سيطرته تقريباً” إلى قاعدة لخدمة قضيته المركزية في تركيا، وأيضاً طمع جمهور عانى طويلاً من الإقصاء والاضطهاد فراح يرسم خريطة عظمى لكردستان سوريا تتجاوز الحديث السابق عن مناطق كردية، وتحل معضلة الربط الجغرافي بينها. لكن، ما إن راح الحلم يتحطم، حتى بدأ التفكير في العودة إلى حيث يتربص بشار منتظراً هذه النتيجة منذ تخلى عن سيطرته على تلك المناطق، وأيضاً العودة إلى الأسد كشرّ يهون بالمقارنة مع “إسرائيلنا”.

من المؤكد أن الجماعة الكردية في سوريا صعدت رمزياً على نحو لا يُقارن بالتاريخ السابق على آذار2011، إلا أن ثمن الصعود كان باهظاً جداً كما هو حال الثمن الذي دفعه سوريون آخرون. على الصعيد الديموغرافي مثلاً، عدد الأكراد ونسبتهم حالياً هما الأقل، حيث تعددت أسباب النزيف البشري من الحروب التي خاضتها القوات الكردية والظروف العامة للبلد، وصولاً إلى ممارسات الإدارة الذاتية “من تجنيد إجباري للقاصرين وللفتيات وقمع الأحزاب الكردية الأخرى”، ويُرجح كما هو حال سوريين آخرين ألا تعود النسبة الساحقة من الذين غادروا إلى الخارج.

ليست المسألة في ما قد تمليه الظروف اللاحقة على منظومة حزب العمال الكردستاني، أي مقدار التنازلات التي قد تُقدَّم على مذبح العودة إلى الأسد، فهذه العودة الاضطرارية لن تفك الارتباط مع القضية الكردية في تركيا ما لم تصبح القضية المركزية لأكراد سوريا في سوريا نفسها، ليكون التعاطف مع الأشقاء شأناً مختلفاً عن أحلام لا يحتملها الواقع، وعن “حب من طرف واحد” يدفع أكراد سوريا ثمنه. في استعراضنا للجماعات السورية التي كان لا بد أن تصعد مع الثورة وعلى الضد منها، للأكراد مكانة وتأثير يستحيل معهما تصور نجاح لتغيير سوري ديموقراطي من دون مشاركتهم. هناك الكثير من الأسئلة عن المستقبل الكردي في سوريا، والإجابة بمعظمها هم مَن سيصوغها، إذ من الوهم الظن بأن فرض الإجابة عليهم متاح كما كان الوضع قبل 2011 أو قبل 2004.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى