تواصل الاستخبارات الأميركية مشاوراتها مع طاجيكستان وأوزبكستان لاستخدام قواعدهما العسكرية لانطلاق طائرات “الدرون” المسيرة عند استهداف الجماعات الإرهابية في أفغانستان بعد خروج القوات الأميركية من هناك، غير أن استخدام “الدرون” في ملاحقة الجماعات المتطرفة يثير مزيداً من الهواجس والقلق في واشنطن، بخاصة بعد العملية الفاشلة في 29 أغسطس (آب) الماضي، التي قتلت عامل إغاثة أفغاني وتسعة من أفراد عائلته، والتي توجت سلسلة من أخطاء طائرات “الدرون” على مدى 20 عاماً في أفغانستان، وكانت أحد عوامل ازدياد أعداد المتطرفين هناك أضعافاً عدة عما كانت عليه الحال في 2001، فهل حان الوقت لتقييد استخدام هذه الطائرات وتحديد قواعد جديدة وصارمة لها؟
مفارقة مأساوية
قد يكون الجنود الأميركيون الآن خارج أفغانستان، لكن عناصر المراقبة التابعة للجيش الأميركي وأجهزة الاستخبارات ليست كذلك، فقد أوضح الرئيس جو بايدن أن الولايات المتحدة ستواصل شن ضربات بطائرات “الدرون” المسيرة في أفغانستان لمواصلة الحرب ضد الإرهاب من دون توافر جنود أميركيين على الأرض، وهو أمر قد يبدو منطقياً أو حتى ضرورياً بسبب مواصلة عدد من الجماعات الإرهابية المناهضة للولايات المتحدة العمل داخل الأراضي الأفغانية.
غير أن هذا التكتيك يمثل مفارقة مأساوية كما يراها بعض الخبراء مثل أودري كورث كرونين أستاذ السياسة الدولية بالجامعة الأميركية في واشنطن كونه يعتمد على ضربات الطائرات المسيرة، التي لعبت دوراً رئيساً في الهزيمة الاستراتيجية للولايات المتحدة في أفغانستان، فعلى مدى 20 عاماً من الحرب الأميركية هناك، استخدم صانعو السياسة الأميركيون ضربات الطائرات المسيرة لتعويض نقاط ضعف الجيش الوطني الأفغاني، وللتغلب على الخلل الواضح في حكومة الرئيس أشرف غني، كما قتلت طائرات “الدرون” المئات من المدنيين الأبرياء، وكان آخرهم زماري أحمدي، الذي عمل لفترة طويلة مع مجموعة إغاثة أميركية، وتسعة أفراد من عائلته.
ومن المتوقع بدرجة كبيرة أن تؤدي الضربات الخاطئة من هذه الطائرات، بخاصة تلك التي تصيب الأطفال، إلى تأجيج الاحتقان والغضب لدى السكان المحليين، بالتالي مساعدة المتطرفين على تجنيد أعضاء جدد من بين هؤلاء السكان، فعلى الرغم من سنوات استهداف القادة الإرهابيين، كشف أحد التقديرات أن هناك أكثر من أربعة أضعاف عدد المتطرفين الإسلاميين في جميع أنحاء العالم الآن عما كانت عليه الحال في 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001 حينما أعلنت الولايات المتحدة حربها العالمية على الإرهاب بعد هجمات تنظيم “القاعدة” على نيويورك وواشنطن.
سلسلة من الفشل
وفي حين أن بايدن حتى الآن لم يظهر أية بادرة على تغيير تلك السياسة، إلا أنه لم يبتكرها ولكنه ورث هذا الفشل من أسلافه الثلاثة جميعاً بوش الابن، وباراك أوباما، ودونالد ترمب، ما أدى إلى رد انتقادات حقوقية وسياسية دولية، وإذا استمر بايدن في هذا التقليد، فمن المرجح أنه سيزيد الأمور سوءاً.
ويرى أودري كرونين، وهو مؤلف كتاب حول هذا الموضوع يحمل اسم “القوة للشعب: كيف يعمل الابتكار التكنولوجي المفتوح على تسليح إرهابيي الغد”، أنه ينبغي على الرئيس الأميركي الابتعاد عن سياسة المطاردة المستمرة واستخدام الطائرات المسيرة المميتة إلا في إطار ظروف محددة، عندما يكون هناك دليل واضح على هجوم وشيك من قبل إرهابي معروف، كما يجب أن تكون الولايات المتحدة أكثر شفافية في ما يتعلق بعملية صنع القرار ونتائج ضربات هذه الطائرات، وأن تعوض الضحايا الأبرياء، لأنه من دون ذلك سوف تستمر واشنطن في تغذية دورة العنف التي لا طائل منها.
الخطأ الأول
لم تكن أخطاء طائرات “الدرون” المسلحة قليلة، فقد وقع الخطأ الأول في ليلة السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، عام 2001، حين حلقت طائرة مسيرة تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، مسلحة بصاروخ “هيلفاير” من أوزبكستان إلى أفغانستان، وأطلقت الصاروخ على زعيم حركة طالبان آنذاك الملا عمر في قندهار، لكن الطائرة أخطأت الهدف، حيث نجا الملا عمر وقُتل بدلاً منه العديد من حراسه الشخصيين، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تستخدم فيها طائرة أميركية مُسيرة لإجراء عملية اغتيال مباشرة.
ومع ذلك لم تتوقف هذه العمليات، فخلال الشهر التالي، وجهت الاستخبارات الأميركية طائراتها المسيرة ضد أكثر من 40 هدفاً لحركة “طالبان”، وتنظيم “القاعدة”، وبحلول نهاية حكم إدارة جورج دبليو بوش، كانت واشنطن قد نفذت ما يقرب من 60 ضربة أخرى بطائرات “درون”، معظمها في باكستان.
قتل الأبرياء
وعندما تولى الرئيس باراك أوباما الحكم في البيت الأبيض تضاعف عدد ضربات الطائرات المسيرة بين عامي 2009 و2017 عشرة أضعاف خارج مناطق الحرب المحددة، وبلغ 563 ضربة، قتل بعضها ما لا يقل عن أربعة مواطنين أميركيين وعدداً من الجنود المشاة والسائقين، بينما خلت قائمة القتلى من أسماء القيادات البارزة من الجماعات الإرهابية، وفي نهاية المطاف، تحولت الإدارة الأميركية من تنفيذ الضربات التي استهدفت أشخاصاً محددين إلى تنفيذ ضربات اختارت أهدافها بتحديد أوسع نطاق حيث كان الذكور في سنّ التجنيد داخل معسكرات التدريب أو المجمعات المشبوهة على قائمة الاستهداف.
وعلى الرغم من أن أوباما زاد من استخدام الطائرات المسيرة، إلا أنه حاول إنشاء نظام أكثر تنظيماً من ذلك الذي كان قائماً في عهد بوش، فقد سيطر البيت الأبيض في عهد أوباما بإحكام على خيارات الاستهداف، إذ لم تكن الضربات تنفذ إلا إذا كان الإرهابيون المشتبه فيهم في أماكن مثل باكستان والصومال واليمن يشكلون تهديداً وشيكاً للأميركيين، ووفقاً لتعاون مشترك بين وكالات الأمن والاستخبارات الأميركية، ومع ذلك، أدى الاستخدام المتزايد لطائرات “الدرون” خارج مناطق القتال إلى مقتل 606 من الأبرياء بين عامي 2009 و2017.
ترمب وبايدن
وحين تولى الرئيس دونالد ترمب الحكم بعد أوباما، كثف من وتيرة هجمات الطائرات المسيرة وتجاوز قيود عهد أوباما، وفوّض قرارات الاستهداف لعملاء وكالة الاستخبارات المركزية والقادة العسكريين، وأصدرت إدارته سراً قواعد خفضت عمليات القتل للرجال المدنيين البالغين، وألغى ترمب أمراً تنفيذياً أصدره أوباما، طالب فيه بالتحقيق في التقارير المتعلقة بسقوط ضحايا مدنيين وتقديم تعويضات، وساعد ذلك في زيادة عدد الضربات الجوية ضد مقاتلين من غير قيادات الصفوف الأولى في تنظيماتهم، وبهذا شنت إدارة ترمب 40 غارة بطائرات مسيرة في الصومال وحدها خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2020، مقارنة بعدد 41 هجوماً هناك خلال 16 عاماً من عهدي بوش وأوباما.
أما الرئيس بايدن فقد كانت إحدى أولى خطوات الأمن القومي التي اتخذها هي إعادة فرض سيطرة البيت الأبيض على عملية الطائرات المسيرة، ووضع قواعد جديدة لكيفية قيام الجيش والاستخبارات الأميركية بتنفيذ الضربات، حيث لم تحدث أية هجمات بطائرات “درون” خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2021، لكن مستشار الأمن القومي جيك سوليفان قال إن الإجراءات الجديدة هي فقط توجيهات مؤقتة، وفي حين لم تصدر إدارة بايدن بعد توجيهات دائمة، بررت القيادة الأميركية في أفريقيا الضربة الأولى بطائرة “درون” في عهد بايدن، داخل الصومال في نهاية يوليو (تموز) 2021، كعمل دفاع جماعي عن النفس نيابة عن القوات الشريكة للولايات المتحدة.
خطوة للأمام واثنتان للخلف
وفي حين ساعدت هجمات الطائرات المسيرة في مكافحة الإرهاب من خلال قتل قيادات “القاعدة” وتنظيم “داعش” وجماعات أخرى، وإعاقة قدرة العناصر المسلحة على التحرك والتخطيط لعمليات مستقبلية وإنقاذ أرواح الأميركيين، إلا أن الطريقة التي تنشر بها الولايات المتحدة الطائرات المسيرة تقوض فائدتها، ويشير موقع “فورين أفيرز” إلى أن هذه الضربات زادت من درجة التطرف في صراعات إقليمية أخرى وساعدت على ظهور منظمات إرهابية جديدة أكثر مما كان عليه الوضع قبل 20 عاماً، بل تبادلت هذه المجموعات التكتيكات لتجنب الطائرات المسيرة، ويشمل ذلك استمرار تواجد الإرهابيين في المناطق الحضرية والاندماج بشكل أوثق مع المدنيين.
ومن المفارقات أن أهداف واشنطن الرئيسة لمكافحة الإرهاب منذ هجمات 11 سبتمبر، كانت القضاء على شبكات الإرهاب العالمية، وتقليص العدد الإجمالي لمقاتليها، وفصلهم عن عامة السكان، لكن الولايات المتحدة لم تحقق أياً من هذه الأهداف، على الرغم من حملة الطائرات المسيرة أو ربما بسببها جزئياً.
استراتيجية للمستقبل
ولهذا لا يوجد سبب للاعتقاد بأن استخدام الطائرات المسيرة في أفغانستان سيكون أكثر نجاحاً من الناحية الاستراتيجية، مقارنة بما كانت عليه على مدار الـ 20 عاماً الماضية، حيث سيكون من الصعب الآن على القوات الأميركية تحديد الأهداف بدقة وضربها، فقد كانت الخطة الأصلية لإدارة بايدن هي شن هجمات بإذن من الرئيس أشرف غني بعد رحيل القوات الأميركية، إلا أن فراره من البلاد والانهيار السريع لحكومته جعل ذلك مستحيلاً، كما فشلت خطة بقاء القوات التركية وتقديم معلومات استخبارية عندما أجبرتها “طالبان” على الانسحاب، ولهذا ليس لدى واشنطن الآن طريقة مباشرة لجمع المعلومات الاستخباراتية التي تحتاجها لإبلاغ قرارات الاستهداف أو لمعرفة من قتلته بالضبط في أعقاب كل غارة تتم عبر طائرة مسيرة.
ولعل الخطأ الفادح الذي وقع فيه القادة الأميركيون حين قصفوا عامل الإغاثة الأفغاني بشكل خاطئ وقتلوه مع عائلته الكبيرة، أكبر دليل أنه إذا تمكنت واشنطن من ارتكاب أخطاء الاستهداف الفادحة في المواقف عالية المخاطر عندما كانت لديها قوات على الأرض، فمن الصعب حشد الكثير من التفاؤل بشأن حملة الطائرات المسيرة بعد الانسحاب الأميركي.
تغيير مطلوب
وبينما ليس من الواضح، ما إذا كان البيت الأبيض سيغير بشكل كبير طريقة استخدامه الطائرات المسيرة، إلا أن الدعوات تتزايد في واشنطن بضرورة الحد من استخدام طائرات “الدرون” إذا كانت إدارة بايدن تريد الخروج من السياسات الفاشلة للحرب على الإرهاب، والاكتفاء بضرب الأهداف المعروفة والمؤكدة فقط، والتوقف عن قتل الأشخاص الذين لا تعرفهم الاستخبارات فضلاً عن الحد من النطاق الجغرافي للضربات.
وإذا كان بايدن قد تحدث للأميركيين في خطابه حول الانسحاب من أفغانستان بضرورة التعلم من الأخطاء، فإن الضغوط تتزايد عليه من أجل وقف ضربات الطائرات المسيرة، التي قتلت عدداً كبيراً من المدنيين، وجرّت الجيش الأميركي ووكالات الاستخبارات إلى معارك كثيرة، ولم تفعل سوى القليل لحماية الأميركيين.
المصدر: اندبندنت عربيّة