حقيقتان صارتا بمثابة البداهة. الأولى أن عصر الدولة الدينية فات أوانه منذ قرون، والثانية أن الكرة الأرضية تعيش في عصر الحضارة الرأسمالية منذ ما قبل الثورة الفرنسية، بالرغم من اعتراضات رفعتها ضدها الحركة الشيوعية وتيارات الإسلام السياسي. الحركة الشيوعية التي انتشرت في كل أرجاء المعمورة وبين كل شعوب الأرض انهارت حين حولت إيديولوجيتها الماركسية إلى دين، فكيف بمذهب محاصر بالأديان وبالجغرافيا؟
هذا يعني أن تفسير الوقائع الراهنة من حروب ونزاعات محلية أو دولية بالرجوع إلى نصوص الكتب أو بسرديات حول هوية البادئ والمفتري والمتآمر والعميل هي مما لا يقبله العقل السياسي العلمي. كل نزاع اليوم هو إما صراع بين مشاريع سياسية واقتصادية أو تنافس على السيطرة بين أصحاب المصالح. أما حروب الغزو فإن حروب السلطنة العثمانية في البلقان والمتوسط وآسيا الوسطى كانت آخر نسخة منها.
إذا كانت الحضارات القديمة من الفينيقية إلى الفرعونية واللاتينية والهللينية والرومانية والفارسية وما بين النهرين والإسلامية وغيرها قد صارت من التاريخ، فإن مطامع الحركات القومية الشوفينية، المبنية على العرق واللغة والإتنيات، ومنها العربية والفارسية صارت هي الأخرى من التاريخ. فلا أرتحششتا سيعود إلى صيدا ولا قمبيز إلى السودان ولا الخلفاء الراشدون إلى عصر الفتوحات ولا طارق بن زياد سيعبر المضيق مرة أخرى.
ما يحصل في لبنان هو بعض مما يحصل في العالم. الحضارة الرأسمالية فرضت نفسها سيدة على الكرة الأرضية وعلى أعماق المحيطات وأعالي الفضاء. فرضت نفسها بالعلم أولاً قبل القوة العسكرية. وهي التي رسمت خرائط البلدان وحدود الأوطان. وهي التي قررت، منذ الثورة الفرنسية، استبدال أنظمة الاستبداد الملكية والأمبراطورية والتيوقراطيات بالجمهوريات والملكيات المقيدة، وهي التي أنشأت تسوية بين تسلط الاقتصاد وحقوق الإنسان فابتكرت صيغة للحوكمة أطلقت عليها إسم الديمقراطية.
هذا يعني أن العالم لم يعد يصدق رواياتنا وسردياتنا عن حادثة الطيونة البارحة أو عن تفجير المرفأ قبلها، ولا عن حوادث خلدة وقبرشمون ونهر البارد وعرسال وكذلك بوسطة عين الرمانة وغيرها وغيرها. لم يعد يهمه من البادئ. هذا من اختصاص القضاء. لم يعد يصدقنا أحد بأنها نزاعات مذهبية أو طائفية أو مناطقية، ولم تعد تنطلي على عقول الأجيال الجديدة من المتعلمين الخدع البصرية والخطابية ولا المناورات ولا الفزاعات التي لا تقنع سوى العقول المتصحرة.
مشروع المارونية السياسية مات بعد أن كلف اللبنانيين في الحرب الأهلية مئات آلاف القتلى والجرحى والمعاقين والمشردين والمهجرين والمفقودين، وكذلك كان مصير الحرب التي خاضتها الحركة الوطنية اللبنانية. لم يمت لأن خصومه أقوى عزيمة وأمضى سلاحاً وأكثر عدداً. مات لأنه اختار المضي عكس مجرى التاريخ. مات وكان يحسب أنه يقاتل من أجل أهداف نبيلة، وقد تكون نبيلة لكنه اختار وسيلة قذرة هي الحرب. هذا يقال عما يدور على نطاق أوسع. الترسانة النووية لم تتمكن من حماية الأنظمة التوتاليتارية، ولا تمكن جيش الشاه، وهو الخامس في العالم في أيامه، من حماية العرش. خيار واحد أمام البشر هو تنظيم الاختلافات بدل تفجيرها. ولن يجدي نفعاً لا عديد المقاتلين ولا عدد الصواريخ.
مجرى التاريخ هو بناء الدول والأوطان واحترام التعدد والتنوع. بالديمقراطية لا بالسلاح نحترم حق الاختلاف ونتساوى كمواطنين تحت سقف القانون. على الشيعية السياسية أن تتعلم من أخطائها ومن حروب شاعت أسماؤها، “اليسار المسلم واليمين المسيحي” في السبعينات، “الشيعة والمتاولة” في الثمانينات، وبالتزامن معها “التحرير والإلغاء”، ومن أخطاء من سبقها إلى أحلام مستحيلة بشد عجلة التاريخ إلى الوراء، أو بوضع القطار خارج سكة التطور. إن لم تتعلم من أخطائها فمن أخطائنا ومن دروس التاريخ.