هكذا دواليك تكررت العملية منذ نهاية حزيران 2020، تاريخ إطلاق منصة (صيرفة 1) لأول مرة، ولغاية اليوم، من دون أن يكون لها أي أثر يذكر في تخفيض سعر الصرف. ورغم رفع السعر المثبت على المنصة تدريجياً من 3900 ليرة إلى 10 آلاف، ومن بعدها 12 ألف ليرة، وصولاً إلى تحريره من بعد تاريخ 21 أيار 2021، بقي السعر أقل من سعر السوق الموازية. ولم يعرف على وجه الدقة المستفيدون من بيع المركزي للدولار المدعوم، وعلى أي أساس يحدد سعر الصرف على المنصة، ومن أين يؤمن مصرف لبنان الدولار إذا كان تدخله في السوق بائعاً بشكل دائم. المرحلة الثانية للمنصة (صيرفة 2) التي بدأت في 21 أيار 2021 هي الأكثر غموضاً ومدعاة للتساؤل. ففي هذا التاريخ أعاد مصرف لبنان إحياء منصة “SAYRAFA” على وقع تخطي سعر صرف الدولار في السوق الموازية 12 ألف ليرة.
وطلب من المصارف والصرافين التسجيل على المنصة لإتمام عمليات بيع وشراء الدولار، بسعر يحدد على أساس العرض والطلب، على أن يقوم هو بالتدخّل عند اللزوم، لضبط التقلبات في أسعار سوق الصيرفة. إلا أنه أعلن أن عمليات بيع الدولار للمصارف المشاركة على المنصة ستحدد بداية بـ 12000 ليرة للدولار الواحد، وأن تسوية هذه العمليات ستتم أسبوعياً بعد أن يكون العملاء سددوا المبلغ عند تسجيل الطلب باللّيرة اللبنانية نقداً. لكن عدا عن اقصاء الصرافين، واقتصار التداول على عدد قليل جداً من المصارف فان حجم التداول الاسبوعي انخفض من 35 مليوناً في الاسبوع الاول، إلى 5 ملايين دولار في الأسبوع الثامن، أي لغاية 16 تموز. ليتحول التداول من تاريخ 26 تموز لغاية اللحظة إلى يومي، وبمعدل تراوح بين 850 ألف دولار و3 ملايين دولار، وبسعر كان حده الأدنى 14 ألف ليرة، والاقصى 18 ألف ليرة يومياً.
إتجاه لإلغاء المنصة
في جميع الحالات بقي سعر منصة صيرفة عالقاً بين “سندان” الدعم و”مطرقة” السوق السوداء، يقول الخبير المصرفي والمالي د. جو سروع. ومع رفع الدعم، وتحديداً عن المحروقات، وفشلها في تخفيض سعر الصرف في السوق الموازية يتوجه مصرف لبنان إلى إلغاء المنصة. فهي على عكس كل المنصات تعمل باتجاه واحد. أي أنها تبيع الدولار ولا تشتريه. ذلك أن سعرها بقي في أحسن الأحوال أرخص بنسبة لا تقل عن 30 في المئة عن السعر الحقيقي. وبحسب سروع فان “تمويلها كان يتم من احتياطي العملات الأجنبية في مصرف لبنان في المرحلة الأولى، ومن الفائض الناتج عن تراجع الودائع في القطاع المصرفي لاحقاً، أي من ودائع المصارف الإلزامية”. فمع ازدياد نسبة سحب الودائع على سعر 3900 ليرة، وازدهار تجارة الشيكات تراجعت الودائع في القطاع المصرفي بنسبة كبيرة لتتدنى عن 106 مليارات دولار. الأمر الذي سمح لمصرف لبنان باستعمال التوظيفات الإلزامية الموضوعة عليها، عوضاً عن إرجاعها إلى المصارف وتوزيعها على المودعين”.
زيادة الضغط على سوق الصرف!
على الرغم من ذلك فان “إيقاف عمل المنصة في هذه الظروف تحديداً، قد لا ينعكس إيجاباً على الوضع الاقتصادي”، من وجهة نظر سروع. “ذلك أن كل هذه الاجراءات التي تؤخذ بالمفرق وبأجواء عامة سلبية تضر أكثر مما تنفع، ويصح عليها صفة QUICK AND DIRTY SOLUTION (حل سريع وقذر) هذا من ناحية، أما من الناحية الثانية، فان وجود سوق سوداء محمية، وبالغة التنظيم والتعقيد والعمق لدرجة لم يشهد لها العالم من مثيل، سيزيد الضغط على طلب الدولار (مادياً ومعنوياً)، ويؤدي إلى ارتفاعات غير مقدّرة في سعر الصرف في حال عدم تأمين البديل عن منصة صيرفة. فالأخيرة تمتص طلباً يصل أحياناً إلى 3 ملايين دولار يومياً، مقابل سوق لا يخضع فيه التسعير لأي قواعد أو قيود نقدية مبنية على العرض والطلب. من هنا يرى سروع أن لا ضير في “صيانة” المنصة وتفعيل دورها أقله للشهرين المقبلين، ريثما تتوضح الصورة، وتحديداً في ما خص الخطة الاقتصادية والعلاقة مع صندوق النقد الدولي.
إنعدام الشفافية “أعدم” سعر الصرف
الهدف الأساسي من إنشاء منصة صيرفة كان إتاحة المجال أمام مصرف لبنان إعطاء سعر صرف شبه رسمي أكثر صدقية وموضوعية من سعر 1507.5 البائد، ويكون ثابتاً أقله لفترات مقبولة نسبياً. إلا أن “هذا الواقع كان يتناقض مع ديناميكية الأسواق المالية”، برأي الخبير المصرفي جان رياشي. “ذلك أن تأمين الاستقرار للسعر واعطاءه صورة رسمية يتطلب إفساح المجال امام المؤسسات والأفراد البيع والشراء على المنصة، وهذا ما لم يحصل في أي مرحلة من المراحل. ولاضفاء الشرعية على عمل المنصة والتغطية على عيوبها أُرغم مصرف لبنان على التدخل باحتياطياته من العملات الصعبة لتحريكها. الأمر الذي ألحق ضرراً أكثر مما أعطى فائدة”.
وبرأي رياشي فان المطلوب “هو إيجاد أو خلق سعر صرف حقيقي في السوق بعيداً من التطبيقات الوهمية التي لا تعتمد على المعطيات الحقيقية وحجم التداول لتحديد السعر، إنما على التلاعب بالأسعار بما يخدم أهداف المضاربين”. وللانتهاء من المضاربة والتوصل إلى سعر الصرف الحقيقي هناك شرط واحد ووحيد هو: “الحرية التامة من خلال تسجيل كل عمليات القطع الفردية والمؤسساتية على المنصة، من قبل المؤسسات المصرفية والصرافة والشركات المالية المرخصة وعلى قاعدة العرض والطلب واحترام مبدأ الشفافية، وعدم إجراء أي عملية من خارجها، لأن ذلك يهدد بعودة السوق السوداء.
فشل الإجراءات المصطنعة في السياسة النقدية طوال السنوات الماضية لم تعنِ شيئاً لبعض المسؤولين، حيث ما زال وزير الاقتصاد أمين سلام مقتنعاً أن الحكومة ستعمل على خفض سعر الصرف إلى ما بين 10 و12 ألف ليرة في الأشهر المقبلة”. وهو الأمر الي ترى فيه مصادر متابعة أن لا خروج من الأزمة إلا بعد الاقتناع بعدم جواز تثبيت سعر الصرف وتركه يحدد نفسه على قاعدة العرض والطلب الحقيقي في السوق الموازية. ومن هنا تكون الانطلاقة.