أكدت الضربة على أكبر قاعدة أمريكية في سوريا، “التنف”، أن محور المقاومة دخل مرحلة العد العكسي لتواجد القوات الامريكية في المنطقة، وتدرك واشنطن ان قواتها وأدواتها لم تنجح بتحقيق الأهداف من الحرب على سوريا، فقد تتحول نحو استراتيجيات جديدة في مساعيها للوصول الى مصالحها بطرق أخرى على المستويات الاجتماعية والثقافية والدينية بزعمها اختراق المجتمع السوري والشارع المقاوم فيه.
وفي هذا السياق دراسة شاملة لمركز دراسات غرب آسيا تكشف مؤشرات هذا التحول والعوامل الاضطرارية التي دفعت الأمريكي لهذا الاتجاه، وتشير الدراسة الى ان “واشنطن تدرك أن المشتركات بين المجتمع السوري ومجتمع المحور المقاوم كثيرة، وهي تعدّ جميعها عراقيل في طريق تفكيك محور المقاومة من البوابة السورية”.
نص الدراسة:
تشهد الساحة السورية تحولًا في الحركة الأمريكية ظهرت ملامحه على المستويات السياسية الرسمية والإقليمية والمحلية. بات بقاء النظام السوري حقيقة لا مفر منها وواقعًا يفرض التعامل معه في تسوية الأزمة السورية؛ وتهافتت دول المنطقة على استعادة العلاقات الدبلوماسية مع دمشق؛ كما طالب مجلس سوريا الديمقراطية، الجناح السياسي لقوات سوريا الديمقراطية أو قسد، الوكيل الكردي العسكري لواشنطن في شمال شرق سوريا، بفتح قنوات حوارية مع النظام السوري بضوء أخضر أمريكي، وسعى للحصول على وساطة روسية. تعكس هذه المؤشرات حالة من الإيجابية العامة في الوضع السوري تظهر انعكاساتها في احتمال كسر جدار العقوبات الأمريكية والعزلة السياسية والحصار الاقتصادي مع ما يعنيه ذلك من تسجيل انجاز جديد لصالح محور المقاومة في اختراق السياسة الأمريكية المفروضة على دمشق، وامتداد لإنجازات أخرى في المرحلة المقبلة هي محصلة طبيعية لتداعيات الإنجاز الأول. واستنادًا إلى مؤشرات التحول، تنطلق هذه الورقة لدراسة أسباب هذا الانعطاف، كما تحاول فهم تفاعلات دينامية حركة الأطراف الفاعلة بما يكشف الاضطرار الذي دفع الأمريكي باتجاه التحوّل.
نقطة التحول.. الظروف والإشكاليات
ساهمت ظروف إقليمية ومحلية عدة في ظروف إرهاصات تعافي الوضع السوري واستعادة التوازن داخليًّا وخارجيًّا. والظروف على نوعين من جهة التأثير: ظروف جوهرية التأثير، وظروف ثانوية أو محدودة التأثير. يشكّل النوع الأول منها الإطار العام للأسباب البنيوية الرئيسة التي تحدد الاتجاه العام للحركة الأمريكية. ويذكر من هذه الظروف فشل الإدارة الأمريكية في تحقيق إنجازات سياسية أو عسكرية استراتيجية في المنطقة من البوابة السورية؛ صلابة ممانعة نظام الأسد وتماسك محور المقاومة في دعم أركانه؛ استنزاف المحور للسياسات الأمريكية وإفشال مخططاتها وإضعاف أهدافها، آخرها كسر ناقلات النفط والغذاء الإيرانية للحصار الاقتصادي على لبنان وسوريا، وإفشال مخططات الفتن المذهبية والطائفية في لبنان، بما يستنزَف معه من الأوراق الأمريكية الأخيرة وازدياد احتمال ملء الفراغ الإقليمي خارج الفلك الأمريكي، واستعادة جزء كبير من الانفراج السياسي والاقتصادي في دول المحور، وما ينجم عنه من تنامي النفوذ العسكري وزيادة تهديد الأمن القومي الإسرائيلي من جهة الجولان المحتل. بيد أن هذه الظروف كلها لا تشكّل دافعًا أساسيًّا لتخفيف الحصار عن سوريا طالما أن مسار العقوبات سياسة غير مكلفة وناجعة على المدى البعيد.
إن الأمريكي يستطيع أن يحافظ على سياسة الضغط الاقتصادي الهادئ في سوريا، وتقويض السيادة عبر العدوان الإسرائيلي المتكرّر والمتصاعد، إضافة إلى استمرار تغذية المشروع الانفصالي في مناطق الإدارة الذاتية. لماذا يتحرك الأمريكي باتجاه القبول بكسر العقوبات وتخفيف الحصار، مع كل ما ينجم عنه من نتائج إيجابية على محور المقاومة وتداعيات سلبية كنتيجة حتمية أولية على الأمن القومي الإسرائيلي والنفوذ الأمريكي في المنطقة. والجدير بالذكر، إن هذا التساؤل مشروع بمعزل عن فرضية احتمال الانسحاب الأمريكي المستقبلي من سوريا أو عدم صحتها، إذ إن النجاعة الأمريكية الحالية مقبولة جدًّا بلحاظ نسبتي التكلفة والمخاطر.
يتعلق النوع الثاني من الظروف بحلفاء واشنطن وشركائها في المنطقة، ويشير إلى أنّهم يمارسون تأثيرًا ثانويًّا أو منخفضًا للغاية بما يمتنع معه اعتبارها كدوافع للتحول الجاري. ويعود سبب توهين تقييمها كدوافع للحركة الامريكية باتجاه التحوّل لعاملين اثنين. العامل الأول هو أنه تكاد تكون هذه الظروف أساسًا أولى ترددات الخيار الأمريكي بتغيير سياسته تجاه دمشق. العامل الثاني هو أن الحركة الأمريكية تخضع لميزان مصالح واشنطن ولو على حساب صالح الحلفاء والشركاء، بالطبع مع استثناء الشريك الإسرائيلي لخصوصية طبيعة العلاقة الاستراتيجية بينهما. ويعدّ أبرز تلك الظروف: معالم مقدمات التطبيع العربي مع النظام السوري والعودة إلى الحاضنة العربية؛ مشروع الشام الجديد (مصر، والأردن، والعراق، فسوريا، ومن ثم لبنان)؛ تسويات أمريكية روسية تعترف بمصالح موسكو في سوريا. والإجراءات الأمريكية التي يفترض أن تترافق مع هذه الظروف هي أشبه ما تكون بمغامرة؛ لما يمكن أن تخلقه من تحول إيجابي أكبر في ميزان محور المقاومة الاستراتيجي لاحقًا؛ فالرهان الأمريكي يحتمل الفشل ويزيد ترجيح تنامي نفوذ محور المقاومة، وتاليًّا، زيادة التهديدات على الشريك الاستراتيجي، ومنها الوجودية.
تترافق هذه الظروف الثانوية مع المساعي الأمريكية الهادفة إلى تغيير سلوك النظام بدلًا من استمرار المطالبة بتنحيه، واحتواء التهديد الإيراني في سوريا وإبعاد القوى المقاومة قدر الإمكان عن مكان التهديد في الجنوب السوري، سواء عن الحدود مع فلسطين أو الأردن، واستثمار تنافس النفوذين الروسي والإيراني. وبذلك، تخدم السياسات الجارية الأهداف ذات النسبة الأعلى من الواقعية والقابلية للتحقق؛ وهما معياران طالبت بهما شهادة الاستماع الصادرة بتاريخ الخامس عشر من نيسان العام الجاري، أمام لجنة الشؤون الخارجية واللجنة الفرعية لمجلس النواب الأمريكي حول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومكافحة الإرهاب العالمي. أكّدت جينيفر كافاريللا، آنذاك، وهي من معهد دراسات الحرب (ISW) المعني بتحليل استراتيجية الأمن القومي الأمريكي والتكيّف مع التهديدات الحالية والمستقبلية، على ضرورة اعتماد خطة طويلة الأمد في سوريا تغيير الأهداف الأمريكية في سوريا للتعامل مع خصوم واشنطن فيها بما يقيّد حركتهم وتنامي نفوذهم، ويكبح في المقابل تآكل كل من النفوذ الأمريكي العسكري والدبلوماسي. مواشنطن
وبهذا، تشير الأهداف الأمريكية الحالية في سوريا إلى نوع من الانسجام مع طرح الشهادة في الكونغرس، علمًا أنها أهداف قصيرة المدى ممكنة ومعزّزة للنجاحات في ظل الضغط على الأطراف الفاعلة. أضف إلى ذلك، إن الإجراءات الأمريكية المتبّعة منذ تاريخ جلسة الاستماع تتوافق إلى حد ما مع الخطة البعيدة المدى وقوامها تعزيز الموقع الأمريكي الاستراتيجي والمرونة المحلية ومتطلبات القوة والتمويل في شمال شرقي سوريا، فضلًا عن إطلاق مبادرة دبلوماسية جديدة لبدء حوار سوري داخلي. وبناء عليه، يمكن القول إن الدافع الأمريكي ناجم عن هذه السياسة بالذات؛ سياسة التخطيط الطويل الأمد، والساعي إلى تحقيق إنجازات يعتدّ بها مع الزمن. وبالتحديد، فإن الدافع للتحول ينتمي إلى طابع المواجهة الناعمة ضد النفوذ الإيراني في سوريا، وهي سياسة أمريكية بدأ الحديث عنها منذ ما يقارب الأربع سنوات والسعي للعمل عليها.
الحرب “الناعمة”.. هوية التحوّل والمسار
منذ أوائل عام 2018، أقرّت وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ووزارة الدفاع برنامج الاستقرار في مناطق النزاع، ومنها شرق سوريا. ويهدف البرنامج الصادر عن تلك المؤسسات المعنية إلى “تقليل مستويات عدم الاستقرار المحلي، والعمل مع الشركاء المحليين لإدارة التغيير بسلام وتوفير حوكمة شرعية ومتجاوبة” عبر الضغط على الشركاء الدوليين لتقاسم التكاليف والأعباء، ومحاسبة الشركاء المحليين، أي الأكراد، للتقدم في تقديم أوراق اعتماد لصالح الأمريكي في المنطقة. وقد تضافرت جهود المؤسسات المختلفة المؤثرة في صناعة القرار الأمريكي لتقديم المشاريع الطويلة الأمد الخاصة بزيادة النفوذ الناعم في مناطق المعارضة في سوريا، من قبيل شعبة الأمن القومي ومركز الأمن الدولي ووزارتي الخارجية والدفاع والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وعدد من المنظمات الإنسانية الدولية والباحثين والأكاديميين.
تشير دراسة مؤسسة راند في شهر آب 2020، وعنوانها ” تثبيت استقرار شرق سوريا ما بعد داعش”، إلى أن واشنطن تتحرك في مناطق شرق سوريا تبعًا لهاجس الخوف من تزايد إنشاء ألوية حليفة للنظام السوري ضمن قبائل المنطقة، وتسعى إلى التشبيك القبائلي عبر استثمار المشكلات الموجودة بهدف حرمان مناطق النظام من موارد الطاقة، ومحاولة إفشال جهود دمشق لاستعادة السيطرة على الحدود السورية العراقية الواقعة إلى الشمال الشرقي من نهر الفرات، وتأمين الحركة الأمريكية من الأردن عبر الوادي من الطرق الجنوبية. تشرح دراسة مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)الصادرة في 21 كانون الثاني 2021، وعنوانها “المساعدة على الاستقرار وسط المنافسة الجيوسياسية: دراسة حالة لشرق سوريا”، آليات العمل الأمريكي في تلك المنطقة. توضح الدراسة كيف أن الأمريكي لجأ إلى تكييف البرامج بسرعة في شمال شرق سوريا وفي مناطق المعارضة في جنوب وشمال غرب البلاد؛ حيث استخدمت واشنطن “التثبيت الناعم” بما يعنيه المصطلح من “الطرق غير الملموسة التي تستخدمها الولايات المتحدة لتدعم فيها السلطات الموجودة في عملية اكتساب الشرعية”، على النقيض من مفهوم مصطلح “القوة الناعمة” الذي يشير إلى مفهوم أوسع؛ يشمل أي شكل من أشكال النفوذ من خلال الوسائل غير العسكرية.
حتى تاريخ شباط العام الجاري، استمر التخطيط البحثي، فقدّم معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ورقة بحثية بعنوان “سوريا في مركز منافسة القوى ومكافحة الإرهاب”. طرح فيها إمكانية معاودة تجربة مصالح الصحوة العراقية في منطقة شرق سوريا بهدف إنشاء حكم أكثر مركزية في مواجهة الديناميكيات القبلية العربية، وتحسين علاقات الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا مع المجتمعات العربية والقبائل المحلية عبر الحكومة السورية المؤقتة لا سيما في دير الزور لمواجهة تمدد إيران وحلفائها، وتاليًّا منع خط الإمداد من إيران إلى لبنان عبر سوريا. وتدل هذه اللمحة من الاهتمام بالتخطيط “الناعم” لمواجهة النفوذ الإيراني على أن الحركة الأمريكية سعت طوال تلك الفترة على إنضاج مسار “الحرب الناعمة”. الأمر الذي يعني أن المرحلة الحالية للسياسة الامريكية في سوريا هي مرحلة استثمار البذور الناضجة في عملية الاحتواء للتهديد الإيراني وحلفائها. ومن هذه الزاوية تحديدًا، يمكن فهم سبب تحوّل السياسة الأمريكية في سوريا.
الاستثمار “الناعم” الأمريكي في الميدان السوري
إن محاولات استباق الأمريكيين لخطوات محور المقاومة في مجال كسر الحصار وتقديم الحلول للأزمات المعيشية المفتعلة أمريكيًّا ليست حصرًا على الساحة اللبنانية. ويبدو أن واشنطن بدأت تتّبع السياسة ذاتها في بيروت ودمشق؛ في الأولى تسعى إلى تقديم “الحلول المقنّنة” وفتح القنوات بمقدار يجمّد مفاعيل إنجازات حزب الله في تقديم المساعدات من خلال الحلول “الإبداعية”، كما وصفها السيناتور الديمقراطي، كريس مورفي، في جلسة لجنة العلاقات الخارجية في 15/9/2021. فالإجراء الأمريكي ليس من باب مساعدة الشعب اللبناني، وإنما خطوة اضطرارية ناجمة عن إجراءات السيد نصر الله التي نجحت في دفع الولايات المتحدة إلى الجدار وفقًا لتعبير ماريانا بيلينكايا في مقالها في “كوميرسانت”، بعنوان “حزب الله يدفع الولايات المتحدة إلى حلول وسط”.
وفي سوريا، تسارع واشنطن لتقديم الدعم في مناطق المعارضة حصرًا، في خطوات استباقية لترسيخ عملية “التثبيت الناعم”، لا سيما مع هواجس قوات سوريا الديمقراطية من انسحاب مشهد كابول على مناطقها. بالأمس، خصصت وزارة الدفاع الأميركية حوالي 170 مليون دولار لتطوير قدرات “قسد” الأمنية والدفاعية وتأمين الحاجات المدنية. كما أعلنت السفارة الأميركية في سوريا تخصيص مبلغ 4 ملايين دولار مقدمة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية للاستجابة للاحتياجات العاجلة في مواجهة جائحة كورونا في شمال شرق سوريا. وبالطبع، يساهم عجز الميزانية الأمريكية في شرح ضعف التمويل المالي، وهو ما تحرص واشنطن دائمًا على جبر كسره من جيوب الحلفاء والشركاء.
حاليًّا، تتصدّر المؤسسات الأوروبية مشهد الوكالة الأمريكية في سوريا، وهي تعمل وفق مسار طويل الأمد يقوم على استثمار القطاع التعليمي في مجتمعات شمال شرق سوريا، ويركّز على برامج دعم المعلمين والتلاميذ والمدارس واللاجئين، بما يؤكد التركيز الأمريكي على مسار الحرب الناعمة في خطط طويلة الأمد. يظهر العنوان العام للمسار في تصريح المتحدث الرسمي باسم القوات التحالف، واين ماروتو، الذي رأى “الاستثمار في التعليم على جميع المستويات أمر بالغ الأهمية لتحقيق الاستقرار والسلام الدائم في شمال شرق سوريا”. وكانت أعلنت المتحدّثة باسم المفوّض الأوروبي لشؤون الهجرة، آنا بيزونيرو، أنّ “المفوضية الأوروبية تعمل على إعداد حزمة مساعدات جديدة بقيمة 3 مليارات يورو توجّه لصالح اللاجئين في تركيا والمجموعات المضيفة لهم”، كما يسعى الاتحاد الأوروبي لتخصيص 150 مليون يورو إضافية لبرنامج دعم اللاجئين السوريين في تركيا، في وقت أعلن فيه رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي إلى تركيا، السفير نيكولاس ماير لاندروت، تقديم دعم مالي قدره 1.4 مليار ليرة تركية لبناء وتشييد نحو 200 مدرسة للاجئين، وتدريب المعلمين السوريين في جميع أنحاء تركيا.
الانعطاف الأمريكي والهواجس الخفية
تدل المؤشرات أعلاه إلى أن الحركة الأمريكية في سوريا في الوقت الراهن والمستقبل القريب والبعيد ستعكس خططها البعيدة الأمد. وتفترض خطة العمل الأمريكية “الناعمة” في سوريا تذليل كل العقبات أمام مشاريعها التأسيسية لاختراق المجتمع السوري والشارع الممانع فيه. يعاني الوجود الأمريكي من تهديد محور المقاومة في سوريا، لكن ليس على المستوى العسكري فحسب، وإنما على المستويات الاجتماعية والثقافية والدينية، أيضًا. تدرك واشنطن أن المشتركات بين المجتمع السوري ومجتمع المحور المقاوم كثيرة، فهناك التاريخ والدين واللغة وثقافة المقاومة والشعور بالانتماء والحس الوطني، وهي تعدّ جميعها عراقيل في طريق تفكيك محور المقاومة من البوابة السورية، وقطع الطريق البري ما بين إيران والعراق ولبنان.
إن تنامي نفوذ المحور في سوريا والمهدد لأمن العدو في المنطقة لا يقتصر على زيادة النفوذ العسكري، وإنما يتخوّف المحور الأمريكي – الإسرائيلي من تطوّر طبيعة العلاقات بين إيران تحديدًا، كدولة تقود المحور، وسوريا، بما يمكن أن ينجم عنه من انعكاسات إيجابية لكلا البلدين وعلى كل الأصعدة. بيد أن المقلق بشكل خاص، هو نضج مفاهيم المقاومة في الشارع السوري الذي بات يستخدم مصطلح “المحور” في أدبياته. إن الممانعة الشديدة التي جسّدها النظام السوري قيادة وشعبًا أفشلت كل الرهانات الأمريكية والإسرائيلية على مدى فترة تتجاوز عقد الحرب الأخيرة. وسجل إطلاق الصواريخ السورية باتجاه كيان الاحتلال في نيسان الماضي تطورًا غير مسبوق، وقد أحدث صاروخ الدفاع الجوي السوري الذي نجح في اختراق المجال الجوي في فلسطين المحتلة، والانفجار فوق منطقة تبعد عشرات الكيلومترات فقط عن مفاعل ديمونا، حالة من الإرباك الإعلامي والعسكري، وتآكلًا في قوة الردع الإسرائيلي، على حد تعبير رئيس حزب “إسرائيل” بيتنا، أفيغدور ليبرمان. وهنا، لا بد من الاخذ بعين الاعتبار، أيضًا، معركة سيف القدس وتأثيراتها على تداعي المشهد الأمريكي في المنطقة ووضوح صورة التراجع أكثر فأكثر.
يدرك الأمريكي أن مرحلة العد العكسي لنفوذه في غرب آسيا بدأت منذ فترة غير قصيرة، بينما يتزايد النفوذ الإيراني فيها. وفي الوقت الذي باءت فيه السياسات الامريكية بالفشل في إخضاع النظام السوري بمختلف الطرق، صمد نظام الأسد. وبدعم من الحلفاء، وفي مقدمتهم إيران، استطاع إبطال مفاعيل الخنق الأمريكي للدولة السورية. فقد كسرت العلاقات الاستثمارية الإيرانية السورية قانون قيصر، وعملت طهران على مساعدة دمشق في كبح انهيار النظام اقتصاديًّا كما فعلت على المستوى السياسي والعسكري خلال سني الحرب. لقد تحدّى محور المقاومة في سوريا قانون العقوبات الأمريكية وسعى إلى تخفيف تداعياته بالقدر الممكن. من هنا، وبلحاظ تضافر المؤشرات أعلاه، باتت نقطة التحوّل الأمريكية في الساحة السورية بمثابة خيار الضرورة في الوقت الراهن كخطوة لإنعاش أهدافه في سوريا؛ فكانت عملية تخفيف الحصار مع تسهيل امتداد أذرع أمريكية غير مباشرة للتسلل بطريقة سلسة بعناوين الانتعاش الاقتصادي والقومية العربية والمذهبية المشتركة، وكل ذلك في محاولة لتقويض التهديد الأكبر لكل من الأمن القومي الإسرائيلي والأمريكي في المنطقة، وهو محور المقاومة الذي لا يرتدع عن مواجهة المشاريع الأمريكية التي لا تخدم إلا مصلحة كيان العدو على حساب الأمة ودول المنطقة وشعوبها.
خلاصة
بات الميدان يفرض على الأمريكي هوامش اللعب والتحرّك وفق مفهوم الاستجابة ورد الفعل. تحاول واشنطن الموازنة في خريطة قوى النظام المتعدد الأقطاب لا سيما في ظل الفشل المتكرر لأدواتها المستنفذة. وتظهر الحركة الأمريكية في الأشهر القليلة الماضية غلبة أسلوب واضح هو تعمّد إحداث حالات من الإرباك في محور المقاومة ضمن استراتيجية الاحتواء لتهديدات المحور المتنامية؛ بما تتوقع معه واشنطن أن تستنفذ إجراءاتها المضادة قوى المحور، على المدى المتوسط والبعيد. أما المسار الأبرز في الحركة المستقبلية في سوريا وفق ما تشير إليه المعطيات، فهو مسار “الحرب الناعمة” بخططه الطويلة الأمد وإجراءاته الخفية وأهدافه الواقعية القابلة للتحقق.
يسعى الأمريكي في سوريا على المدى البعيد إلى محاصرة نمو المشتركات المجتمعية ما بين سوريا وبقية دول المحور المقاوم بما يحتمل معها منع نضج معادلة الفضاء السوري- ديمونا وتل أبيب، وتقويض تهديد نفوذ المحور لأمن العدو، والأهم هو كبح نضج مفهوم المقاومة في الشارع السوري والانتماء للمحور. وهو مسار طويل يحتاج إلى العمل وفق أهداف قصيرة وسريعة الناتج عبر استثمار الفوارق، لا سيما المذهبية منها، والعمل على تغذيتها لتأليب الشارع السوري على الوجود الإيراني، واستثمار الإنجازات التراكمية فيه بما يرجّح معه النجاعة المطلوبة. وهذا المسار بالذات، هو الذي يحدد الدافع الأمريكي للانعطاف السياسي في سوريا بعد خسارته فيها، ويتوقع منها إرباك الساحة السورية داخليًّا تدريجيًّا، ومن ثمّ انعكاس تداعياتها على علاقتها بالمحور.
المصدر: مركز دراسات غرب آسيا