ابراهيم ناصرالدين-الديار
لم تكن بواعث قلق الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله ازاء الاحداث الدموية في الطيونة «عبثية»، ورفع سقف «المواجهة» مع «القوات اللبنانية» لم يهدف فقط الى رفع معنويات واستيعاب الغضب في «الشارع» الشيعي ازاء ثالث حادثة تقع في فترة زمنية متقاربة دفع خلالها جمهور الحزب اثمانا باهظة في موقعة خلدة وبعدها الطيونة وقبلها محاولة ضرب «الهيبة» في حادثة شويا.. كما لم تكن اتهاماته لرئيس «القوات» سمير جعجع مجرد هجوم في السياسة لخدمة اراحة حلفائه في التيار الوطني الحر قبيل الانتخابات كون «ذاكرة» المسيحيين تحمل الكثير من الآلام الدامية المرتبطة بسلوك ميليشات «القوات» ابان الحرب الاهلية، وليست بحاجة الى سرد وقائع تاريخية لا يمكن لاحد انكارها، كما لا يمكن ايضا اغفال المحطات المفصلية في تاريخ لبنان والمنطقة حين اثبت حزب الله انه ضامن حقيقي للعيش المشترك واحد اكبر حماته. لذلك يمكن القول ان خلفيات التصعيد ضد «القوات» تحمل الكثير من الصواب في هذا التوقيت، برأي مصادر مقربة من الحزب، ولم تكن مجرد رسائل لطرف لبناني، قد يتوهم للحظة انه قادر على المغامرة في الدخول في مواجهة مع حزب الله، بل «رسالة» الى اطراف اقليمية ودولية كي لا تخطىء في حساباتها مرة جديدة.
ولمن يشكك بنظرية «المؤامرة»، تبدو تجربة رئيس الحكومة الاسبق سعد الحريري، وكذلك النائب السابق وليد جنبلاط ماثلة للعيان، باعتبارهما شريكيين بمشهد يخشى حزب الله من تكراره مجددا. ولعل من المفيد التذكير ان جنبلاط نفسه اعترف بانه كان «رأس حربة» في التحريض على سلاح الاشارة التي ادت الى احداث السابع من ايار 2008 وتحدث يومها عن وقوعه ضحية «لعبة الامم»، وهو تعبير منمق لتوصيف الاجندة الاميركية – السعودية، وبعد ان ادرك جنبلاط ان التورّط في «لعبة» مماثلة يعادل الانتحار، واختار الجلوس على «التلة»، لحق به الحريري بعدما ادرك ايضا انه غير قادرعلى تحمل كلفة الصدام مع حزب الله بعدما اكتشف ان «لعبة الدم» ستكون غالية وكلفتها عليه وعلى تياره السياسي باهظة، فاختار تبني استراتيجية «ربط النزاع» مع الحزب الذي بادله «التحية» باحسن منها عبر حماية دوره كرئيس لاكبر كتلة سنية بعدما عوقب بطريقة مهينة في الرياض قبيل وخلال اعتقاله المشين، كعقوبة على خياراته التصالحية.
لم يبق في الميدان الا «حديدان»، تقول تلك الاوساط، فخطورة حادثة الطيونة لا تكمن فقط في طبيعة ما جرى ميدانيا في ذلك اليوم «المشؤوم»، وانما في المقدمات التي بقيت مجرد «ثرثرات» لم تكلف «القوات» نفسها عناء تكذيبها على نحو جدي، لاعتبارات سياسية كونها تريد ان تظهر امام الشارع المسيحي انها قادرة على حمايته من «الآخر»، او لان الرواية حقيقية والترويج لها كان مقصودا لترويع الآخرين، وتأكيد الحضور امام الرعاة في الخارج، والمقصود هنا ما سرّب قبل مدة من كلام لجعجع في حضرة جنبلاط عن وجود توجه لديه لمواجهة حزب الله ب15 الف مقاتل نتيجة تقييمه «المتهور» للوقائع الميدانية في الداخل والخارج… وجاء اطلاق النار يوم الخميس ليؤكد ان ثمة «جهوزية» متقدمة للذهاب في البلاد الى اكبر من مشكل موضعي بدليل تقصّد ايقاع عدد لا يمكن «هضمه» من الضحايا في الجانب الآخر، لاستدراجه الى ردة فعل تكون اكثر دموية، وعندها تدخل البلاد في فوضى عارمة تتجاوز «خط التماس» بين الشياح وعين الرمانة.
لكن تم ضبط الغليان على نحو «عجائبي»، وعمل الجهات المعنية على خطين في اكثر من منطقة حساسة بعيدا عن موقع الاشتباك، اولا، ضبط اي رد فعل انفعالي في المناطق المتداخلة، وثانيا، فرض رقابة شديدة على المناطق المحورية ، حيث نفوذ «القوات» لرصد اي تحرك قد يؤشر الى وجود «لعبة» تتجاوز حدود الطيونة. وقد تبين لاحقا، ان الامور تحت «السيطرة»، وتوصل حزب الله والاجهزة الامنية المعنية الى خلاصة تفيد بان ما يحصل على الارض محصور ميدانيا وليس «ساعة صفر» لتحرك اوسع، وجرت المعالجات ضمن هذا الاطار…
لكن وفي غياب المعلومات الحاسمة من قبل الاجهزة الرسمية عن وجود القدرة «اللوجستية»عند «القوات اللبنانية» على افتعال مواجهة واسعة بقدراتها الذاتية، دون استبعاد الرهان على دعم خارجي، فان الجرأة على القتل ومحاولة استدراج التصعيد، يثير الريبة بعدما تبين انه كان يمكن احتواء المتظاهرين الذين خرجوا عن السياق الاصلي للتحرك وانحرفوا باتجاه احد الشوارع الداخلية في عين الرمانة وبدأوا باعمال شغب، ولا شيء يبرر اطلاق النار باتجاههم، ولذلك بات امام المعنيين نظرية واحدة لا غير، انها «بروفة» القصد من ورائها استعراض القوة واستدراج الدعم الخارجي، واستبعدت نظرية ان يكون «المشكل ابن ساعته» لانه ثبت وجود استنفار «قواتي» ترجم باستقدام عناصر من خارج المنطقة.
اما لماذا «القلق» ومحاولة استدراج الخارج؟ فالجواب موجود في «اسرائيل» التي ينتابها القلق نفسه الموجود عند كل حلفاء واشنطن في لبنان والمنطقة، وفي هذا السياق، كتبت صحيفة «هارتس» بالامس تقول، «بايدن يعيد احياء استراتيجية باراك اوباما الذي وضع خطة للاستقرار في الشرق الأوسط وانسحاب الولايات المتحدة منه، تقوم على فكرة تقسيمه إلى مناطق نفوذ شيعية برئاسة إيران وسُنية بقيادة السعودية، لكن لانه لم يتبقَ الكثير من مناطق النفوذ، الاتجاه الآن لارساء التعاون بينهما في مواضيع معينة. وثمة مؤشرات على ذلك بدأت قبل ستة أشهر دفعت الرياض وبقدر أقل الاردن ومصر، إلى الانعطاف ايجابا تجاه إيران، بعدما ماتت سياسة ترامب في مهدها مع تغيير الحكم في واشنطن، وتراجعت «اسهم» الرياض في الكونغرس ولدى الجمهور الأميركي منذ قضية خاشقجي، فيما بايدن «الضعيف» يخوض مواجهة داخلية قاسية مع الجناح اليساري المتطرف لدى الديمقراطيين، الذين لا يدخرون فرصة للتخريب على علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط. وهذا استنتاج لم تستوعبه بعد حكومة إسرائيل».
ويبدو ان قوى لبنانية حليفة لواشنطن، لم تستوعبه ايضا، وتريد ان تحذو حذو «اسرائيل» التي تشاغب في المنطقة لاجهاض الاتفاق النووي، وهي «تشاغب» في لبنان لخلق وقائع ميدانية تمنع التسليم الاميركي باي تفاهم سعودي – ايراني يضع لبنان في «حصة» النفوذ الايراني، ولذلك تسعى لاستعراض القوة في «الشارع»، وتحاول «قلب الطاولة»، نتيجة عدم ثقتها بتحقيق تغيير كبير في صناديق الاقتراع، ولهذا كان رد فعل السيد نصرالله «عنيفا» على «بروفة» العنف لتبريد «الرؤوس الحامية» التي اثبتت انها قد تذهب في «مغامراتها» الى «حافة الهاوية» ولهذا كان معنيا بتحذيرها من الوقوع فيها.!