دعوة إلى وحدة وطنية جامعة في لبنان رغم التباينات التخريبية الطاحنة
د. وجيه فانوس*-البناء
يعيش لبنان تعدديةً شديدة التجذر في التكوين الثقافي الوطني؛ ولعلّ من دوافع وجود هذه التعددية تراث عتيق من العيش في ظلّ النظام الملي العثماني. إنه النظام الذي يُعتبر تقليداً عرفياً، يؤمّن نوعاً من الاستقلال الإداري الذاتي للطوائف غير الإسلامية، في الأقاليم التي كانت تحكمها الدولة العثمانية؛ وبمتقضى هذا العرف، أصبح لكل طائفة دينية أو ملية حال من الاستقلال الإداري الذاتي، إذ يحق لها استخدام لغتها الخاصة واتباع طقوس مذهبها الديني، ورعاية مؤسساتها الدينية والتعليمية؛ فضلاً عن التقاضي أمام محاكم خاصة بها، وجباية الضرائب المقرّرة على أفرادها، وتوريدها، من ثم، لصالح الخزانة العامة للدولة.
قاد هذا الأمر إلى أن تحوّلت الطائفية من ظاهرة دينية، إلى ظاهرة سياسية؛ وتزامن استخدامها السياسي الكثيف، مع دخول السلطنة العثمانية، مرحلة الانحدار والتفكك السياسيين. ومن هنا، فقد ساعدت بريطانيا وفرنسا على إقامة دول عربية، إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى، وتراجع الحكم العثماني عن بلاد الشام، على خلفية عصبيات طائفية. ويمكن النظر، عبر هذا الواقع، إلى مصدر التصميم المسبق، للدولة الفرنسية المنتدبة على لبنان، وفاقاً لتقسيمات «اتفاقية سايكس ـ بيكو»، التي تمّ تأييدها لاحقاً بقرارات من «عصبة الأمم»، عام 1920، والذي قاد إلى أن تكون «دولة لبنان الكبير» ملجأً للطوائف، بزعامة الطائفة المارونية.
يمكن القول، إنه، وضمن هذا المفهوم لفاعلية الدولة، لا وجود لمواطن، في الثقافة السياسية اللبنانية؛ بل ثمة وجود لطوائف؛ وبدقة أشدّ تحديداً، ثمة وجود لمذاهب. وبمراجعة بسيطة لواقع الحال، يمكن القول إنّ ثمة سيطرةً ما لتمثيل الطائفة، كما المذهب، في المراحل الأولى من تاريخ الدولة اللبنانية، بدءاً من عام 1920. كان قوام هذه السيطرة، بشكل عام، تحالف لرجال دين وعلمائه مع قادة السياسة؛ ثم كان أن تحوّل الأمر، في المراحل المتأخرة، وبصورة جلية منذ السنوات القليلة التي سبقت محطات الاقتتال الدامي في لبنان، عام 1974، إلى «شبكة سلطة سياسية»، قوامها تحالف متنافس في ما بين ناسه، يجمع قادة السياسة؛ ويقف فيه رجال دين وعلماء في شرائعه، في ما يشبه الصفوف الخلفية المساعدة لهم عند اللزوم؛ بما يوضح أن الطائفة والمذهب، من العوامل الخادمة للمصالح السياسية، وليس الدينية؛ لأناس متحالفون في ما بينهم على تنافس شخصي في استغلال ما في البلد من ناس وخيرات وإمكانيات كسب.
لئن كان هذا التحالف، قد أمن في مراحله الأولى، وبحكم المفهوم السائد والمتجذر للتعددية الطائفية، المصلحة الكلية لوجود الطائفة أو المذهب؛ إذ غالباً ما كان المواطن يرى وجوده مرتبطاً بشكل أساس وعضوي بوجود طائفته أو مذهبه؛ فقد أسهم نشاط الأحزاب العلمانية، مع ضغوط المتطلبات الفردية المتمايزة والمتنامية والخاصة بكل مواطن، من طلب للعلم وسعي إلى الرفاهية الفردية، واجتهاد في مجالات الحرية الفكرية ونماء العقل النقدي، في ازدياد الوعي الوطني الفردي والجمعي؛ كما أوضح، كل هذا، عدم قدرة البعد الطائفي، أو المذهبي، على توفير ما يسعى إليه هذا المواطن من متطلبات عيش، ما عاد قادراً على الاستغناء عنها، وما عادت مفاهيم التعددية الطائفية والمذهبية تقود إليها.
أثبتت الأحداث المتعاقبة على لبنان، وبخاصة منذ محطات الاقتتال الدامي، التي بدأت عام 1974، أن الثقافة السياسية للطائفة والمذهب، لم تعد تلبّي المصالح الفعلية والحقيقية العملية للمواطن؛ أياً كانت طائفته أو مذهبه؛ فما التعددية الطائفية والمذهبية، وفاقاً للتجربة، سوى خدمةً لمصالح زعامة فردية أو أشخاص قيادة سياسية جمعية. ثمة مطالب عيش وطموح اشترك فيها أناس ينتمون إلى مختلف الطوائف والمذاهب؛ وثمة أذىً مشترك في الوجود الإنساني والوطني، لحق بكثير؛ على رغم تباين انتماءاتهم الطائفية أو المذهبية. لم يعد الانتماء إلى الطائفة أو المذهب بقادر على أن يقف حال حماية أو ملجأ خلاص لكثير من المنضوين تحت لوائه.
فرض مفهوم «المواطنة» وجوده، بغضّ النظر عن أي تعددية طائفية أو مذهبية؛ بل بات أناس كثر ينطقون شهادة كفرهم بالطائفية والمذهبية منهجاً للعيش الوطني. ثمة حقوق ومطالب وطموحات ورؤىً، باتت واضحةً عند كثير من المواطنين؛ لا تجد جدوىً وطنيةً لها، في مبادئ التعددية الطائفية أو المذهبية؛ التي قامت عليها معالم أساس من الثقافة الوطنية والسياسية في لبنان، منذ الإعلان عن إنشاء «دولة لبنان الكبير»، عام 1920، بل ومنذ ما قبل هذا التاريخ.
أثبت كثير من مفاهيم ثقافة النظام الملي العثماني، ونظام التعدد الطائفي والمذهبي، ما فيهم من مجالات تعويق وتشويه وقتل للعيش المعاصر للمواطن في لبنان. بدأ صراع شرس بين ناس «شبكة السلطة» من جهة، وناس الشعب الطامحين إلى تحصيل ما يرونه حقوقاً لوجودهم الوطني، لا بحكم الانتماء إلى طائفة أو مذهب، ولكن بحكم الانتماء إلى الوطن. بدأت المطالبة بنظام وطني مختلف، تنتشر بين اللبنانيين؛ وصارت رقعة هذه المطالبة تتسع بين ناس من مختلف الطوائف والمذاهب. تحوّلت هذه المطالبة، مع توالي الأحداث والسنين، وبخاصة في المرحلة الأخيرة، إلى مطلب أساس تنادي به جماعات كثيرة من اللبنانيين.
يعاين اللبنانيون، في خضمّ ما هم فيه جميعاً اليوم، فجيعةً بوطن يكاد يتلاشى أمام أعينهم؛ وقد اكتنفته غصباً، أعباء مالية لا قدرة لشعبه على تحمّل تبعاتها؛ وغمرته، قسراً، أرزاء اقتصادية ما فتئت تسحب ناسه إلى هاوية لا قرار لها؛ فشملته فجائع اجتماعية ومآس صحية، تواصل دفع من فيه، بعيداً عن أيّ بعد طائفي أو انتماء مذهبي، إلى مهاو لم يشهد تاريخه العريق مثيلاً لبؤسها الطاحن ولا لأرزائها القاتلة.
أما آن للبنانيين اليوم، بل في هذه الساعات والدقائق التي غدوا يموتون فيها ألف مرة؛ وبعد كلّ هذا الذي يعانيه الشعب، في ظلّ نظام طائفي تحاصصي استئثاري، من خسف مالي وانهيار اقتصادي وذبول سياسي وإملاق اجتماعي؛ أن يعيدوا التفكير، ملياً، في ما أوصلهم إليه اعتماد هذا النظام القائم على طائفية سياسية ومذهبية دينية؛ والناهض، أساساً، على منطق المحاصصة الدنيئة وركائز التناتش التكاسبي؛ التعس والمستذل.
إنه النظام الذي ترسخ على اختزال للعشيرة واختصار للقبيلة، لمن ما برحوا يعتقدون بالعشيرة والقبيلة؛ وهو عينه النظام الذي انبنى على ازدراء بالناس، لمن يؤمنون بالناس؛ وما كلّ هذا الانبناء وذلك الاختزال، إلا لتأمين مصلحة شخصية وفائدة آنية، وهو تأمين ابن للأنانية العمياء وصنو للإملاق الوطني؟! أما آن للبنانيين، بعد كلّ هذا المرار الذي يعانونه، من أن يدركوا أن هذا النظام الطائفي، بكل ما فيه، هو السبب الأساس في ما وصلوا إليه من عسر مادي وحرمان اجتماعي وعوز اقتصادي وخضوع لطواغيت المال وهو أن أمام شياطين السياسة وانحطاط عام ترفض الكرامة الإنسانية لهم أن يشتملوا به؟!
أما آن للبنانيين، إذا ما راجعوا العقل والمنطق والتاريخ، أن يؤكدوا لذواتهم، قبل أن يقنعوا الآخرين، بل قبل أن يفاوضوا من قد يكون قادراً على تسليفهم المال، أو حتى قابلاً بهذا التسليف، أن استمرار العمل بهذا النظام الطائفي، ليس سوى مخالفة هدامة للبند (ح) من «مقدمة الدستور اللبناني»؛ التي تنص على أن «إلغاء الطائفية هدف وطني أساسي»، وأن بقاء هذا النظام الطائفي فاعلاً، بعد أربع وتسعين سنة من صدور الدستور؛ ليس سوى خطيئة تنتهك، بكلّ صراحة فاجرة ومتعمدة، المادة 95 من الدستور اللبناني الصادر، قبل سبع وسبعين سنة، 1943، وللقانون الدستوري الصادر، منذ ثلاثين سنة، 1990؛ إذ الهدف واضح وجلي يفرض، منذ تلك العقود والسنين، «اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية»؟!
أما آن للبنانيين، ولأنهم يسعون إلى حفظ مصالحهم وصون أرزاقهم وضمان الآتي من أيام أبنائهم وبناتهم؛ أن يصروا مجتمعين، على العمل في سبيل ثبات وجود لبنان، ودوامه؛ إذ يؤمن حقاً بأن لبنان هذا وطن له القدرة العملية، بغناه المادي والمعنوي، وليس بإفلاسه على الإطلاق، على مواجهة تحديات حاضره المالي البائس وواقعه الاقتصادي المنهك وحاله الاجتماعي المؤلم؛ ومن ثم مواكبة المعاصرة المفهومية والتطبيقية للزمن، في مقبل أيامه وامتداد سنواته واستمرار عقوده؟
أما آن للبنانيين، بما لديهم من ثروات عقلية وغنىً ثقافي، وبما يمثله أبناؤهم من طموحات راقية، وما ينهض في مجتمعهم من مؤسسات أهلية ومنظمات للحق المدني، وما يضمه بلدهم من تجمعات شعبية واعية، أن ينتظموا في ما بينهم، سعياً إلى قيام نظام المواطنة؛ وهو النظام الذي يستجيب، قولاً وعملاً، للمادة السابعة من «الدستور»، إذ «كل اللبنانيين سواء لدى القانون، وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية؛ ويتحملون الفرائض والواجبات العامة من دون فرق بينهم»؟!
أما آن للبنانيين أن يستفيدوا، من ما لهم من علاقات عالمية بناءة وصداقات دولية واسعة النطاق، وبإيجابية فياضة بالأبعاد الإنسانية والرؤيوية الوطنية، للنهوض مما يعيق تقدمهم الاقتصادي، وتتعثر به مجالات تحقيق فاعلية وجود بلدهم؛ الذي ما عرفه العالم إلا رسالةً مشرقةً للإنسانية، في تعايشها المشترك والتلاقي الخير المعطاء بين أبنائه وأهله؟ إن أي انتظار أو تسويف أو مراوغة، في هذا الأمر، لا يمكن إلا أن يقود إلى متابعة كارثية هوجاء في اغتيال الوطن وإلغائه. فتعالوا، أيها الأعزة، مهما يمكن أن نكون قد اختلفنا في ما بيننا، سياسياً؛ لنتحد، هذه المرة وطنياً وليس سياسياً، يداً واحدةً واعيةً مسؤولةً؛ وهيا إلى العمل، من أجل نظام المواطنة؛ وفاقاً للبند (د)، من «مقدمة الدستور»: «الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ