هل بات بالإمكان القول بان القبضة الايرانية الممسكة بمنطقة غرب اسيا بدأت بالتصدع، وان ملفات كان من المفترض انها خارج دائرة الارباك او تشكل مصدر اطمئنان لقيادة طهران بقدرتها على تحريك خيوطها لدفع مشروعها الاستراتيجي سواء في البعد النووي او الصاروخي او استمرارية نفوذها الاقليمي، باتت هذه الملفات في دائرة الخطر، او تحولت لمصدر قلق حقيقي على مستقبل هذا الدور والموقع في الجغرافيا السياسية لهذه المنطقة.
فالثمن غير القليل الذي تكلفته طهران في معالجة المستجد الجيوبولتيكي والجيو اقتصادي على حدودها الشرقية الغربية مع منطقة القوقاز الجنوبي بعد التصعيد الذي قامت به جمهورية اذربايجان بدعم واضح وعلني من تركيا وقيادة رجب طيب اردوغان، ودخول العامل الباكستاني على هذه الساحة من خلال المناورات العسكرية التي شاركت بها الى جانب الجيشين التركي والاذبايجاني. ما وضعها امام خيارين للتعامل مع هذه المتغيرات، ان تبحث عن التهدئة السياسية مع باكو بعد استعراض عسكري اجرته في النقطة صفر مع الحدود معها، وأن تستطلع الموقف الباكستاني في زيارة عسكرية بلباس مدني قام بها قائد القوات المشتركة الجنرال محمد باقري الى اسلام اباد.
والعقدة الباكستانية لا تقف عند طموحات اسلام اباد في الدخول الى منطقة القوقاز، بل ترتبط ايضا بالدور المتقدم الذي تتمتع به في المتغير الافغاني بعد الانسحاب الامريكي من هذا البلد، خصوصا بعد التطورات الامنية الاخيرة والتفجيرات التي استهدفت تجمعات شيعية قامت بها جماعة داعش. وهو الامر الذي شكل احراجا كبيرا لقيادة النظام الايراني داخليا واقليميا، واستراتيجيته القائمة على استيعاب الدور الجديد لحركة طالبان في اطار رؤية تقوم على إبعاد الجماعة الشيعية عن الاستهداف، الى جانب تأمين الاستقرار في الجانب الاقتصادي وما تشكله كابل من شريان حيوي يربط طهران بعمق دول اسيا الوسطى وصولا الى الهند والصين. خصوصا وان هذه التفجيرات تشكل تحدياً لهذه الرؤية وتسمح للاصوات المعارضة لها في الداخل بالتمسك بمطلب تخلي النظام عن هذا الموقف الذهاب لدعم خيار المقاومة الذي تبنته جماعة وادي بنجشير بقيادة احمد مسعود.
وفي السياق نفسه، اتت النتائج التي خرجت من صناديق الانتخابات البرلمانية العراقية لتشكل صدمة واضحة سمعت اصداؤها في طهران بشكل مدوٍ. اذ كشفت عن حقيقة مرة، بتراجع تمثيل القوى والفصائل التي تدور في فلكها وتمثل ذراعها على الساحة العراقية، واحد المداخل لترجمة معركتها مع الوجود العسكري الامريكي، لصالح صعود الاصوات المعارضة لهذا الدور، ممثلة بالتيار الصدري ودخول الجماعات التشرينية على الحياة السياسية بعد انتفاضة كانت شعاراتها المعادية للدور الايراني احد ابرز اسلحتها في المعركة الانتخابية.
نتائج الانتخابات العراقية، قد تستطيع طهران استيعابها والعمل على تكتيل القوى المؤيدة لها في اطار تحالف قد يضعها على خريطة المنافسين في تسمية الرئيس المقبل للحكومة، الا ان الوصول الى النتيجة المطلوبة لن تكون ميسرة وسهلة، بل يشوبها الكثير من التعقيد والتهديد بنقل العراق الى صراع داخلي لن تكون دمويته بسيطة، خصوصا وان مقتدى الصدر وزعيم التيار الصدري الذي يعتبر نفسه المنتصر الاول في هذه الانتخابات وصاحب الحق الدستوري والقانوني في تسمية رئيس السلطة التنفيذية الجديد، لن يستسلم بسهولة للضغوط ومساعي التسوية الايرانية، من منطلق ان التسوية ستكون على حساب استحقاق تياره الدستوري الذي انتظره طويلا، بالاضافة الى انها تعني انكسار الشعار الذي رفعه بمواجهة التدخلات الخارجية، ما يفقده ما تبقى له من مصداقية في شارعه الشعبي وبين القوى السياسية في المكونات الاخرى وتعزز مسار عدم الثقة في ثباته على المواقف التي يلعنها.
وفي الوقت الذي كانت طهران منغمسة في متابعة ومعالجة آثار التطورات في اذربايجان وافغانستان والانتخابات العراقية، برز التطور الامني الخطير على الساحة اللبنانية، والذي وضع درة مشروعها الاقليمي والذراع الاقوى في المنطقة في دائرة التحدي الحقيقي جراء الصدع الامني الذي رافق المظاهرة التي دعا لها الثنائي الشيعي ضد الاجراءات التي يقوم بها المحقق العدلي طارق بيطار في تفجير مرفأ بيروت وتسطير مذكرة اتهام بحق احد وزراء حركة امل.
اذ، مع دخول هذا الحليف مرحلة قطف نتائج الدور الذي لعبه على الساحة الاقليمية، والاستثمارات التي وظفها على الساحة الداخلية، برز التطور الامني الذي قد يكون هدفه اعادة خلط الاوراق واعلان طرف لبناني عن انتقاله لتثبيت موقعه على الخريطة اللبنانية والاقليمية بالرصاص، وبالتالي قد يفرض على الحزب اعادة تقويم اوضاعه وحسابات الربح والخسارة، خصوصا وانه يعتقد بان انزلاقه الى حرب داخلية او اهلية قد تشكل ضربة قاسمة لكل مشروعه. فضلا عن انه بات مقيداً بالبعد الاستراتيجي للمركز الايراني الذي يعمل على تفكيك ازماته الاقليمية مع الجوار العربي، ما يعقد عليه اعتماد لغة تصعيدية ضد دولة عربية يتهمها بدعم القوات اللبنانية الجهة التي صوب عليها الاتهام، ولم يكن امامه سوى استغلال الذريعة التي قدمتها له زيارة مساعدة وزير الخارجية الامريكية فيكتوريا نولاند الى بيروت بالتزامن مع هذا التطور الامني ليضع الحادث في اطار الحصار الامريكي – الاسرائيلي الساعي للنيل منه وتفجير الساحة الداخلية في اطار مشروع لمنطقة غرب آسيا يبدأ من باكو ويمر في افغانستان مرورا بالعراق وصولا الى سوريا ولبنان. ما عمق الجدل الداخلي في صفوفه حول قدرته على ضبط ردود الافعال المطالبة بالخروج من دائرة “الصبر” والتصدي للضربات المتوالية التي لحقت به في الاشهر الاخيرة.
اعلان طهران انها تراقب عن كثب التطورات التي تجري في كل الجهات التي تشكل مجالا حيويا واستراتيجيا لها، من باكو وصولا الى بيروت، لا تخفي قلقها بان تتحول الساحتان اللبنانية والعراقية الى المدخل الاساس والرئيس لاستراتيجية محاصرتها وتقليم اظافرها في الاقليم من قبل الادارة الامريكية، وهي مساع تأتي متزامنة مع ارتفاع حدة الضغوط الغربية في ملف المفاوضات حول البرنامج النووي، وتضييق الخيارات امامها في التعامل مع موقفها من العودة الى طاولة المفاوضات، ما قد يعني امكانية ان تكون مجبرة على تقديم تنازلات للتخفيف من الضغط النووي، والتفرغ لمعالجة تداعيات التطورات التي تشهدها ملفاته الاقليمية وكبح المسار المقلق في مناطق نفوذها.