الأخبار- ابراهيم الأمين
قرّر قائد الجيش اللبناني، خلافاً لتقدير مديرية الاستخبارات لديه، ولقادة العمليات على الأرض، أن ما حصل في الطيونة كان اشتباكاً مسلحاً بين مجموعات مختلفة. قال بيان الجيش (الثاني في اليوم نفسه مخالفاً البيان الأول) إن ما حصل لا يعدو كونه مشكلة بين زعران كما يحصل في كثير من المناطق. لكنهم ليسوا من النوع الذي يتطلب عملية دهم واعتقال أو قتل إذا لزم الأمر. وهو تدرب على فعل هذا في أمكنة أخرى، حيث لا صور للضحايا ولا من يحزنون.
أما ديكة مزابل المجتمع المدني وصيصانهم، اليمينية منها واليسارية المقيتة أيضاً، فقد انتظروا بضع ساعات، قبل أن تأتي التعليمة بأن ما جرى في الطيونة لم يكن سوى عملية انتحار تسبّب بها من قرّر التعبير عن رأيه. وأكّد لنا هؤلاء أن الاحتجاج على تحقيقات طارق البيطار جريمة وليس مجرّد رأي يخالف صاحب السلطان، وأن هؤلاء المحتجين لا يشبهون أولئك الذين قرروا التظاهر لـ«قبع» السلطة والدولة والنظام، لأن الصنف الثاني من شعب الله المختار، ولديهم حق الحصول على مبتغاهم وليس التعبير عن مطلبهم فقط. أما من يرشقهم بحجر، أو يضربهم بعصا، فمجرم يُفترض أن يدفع الثمن مع كل أهله حتى لا يعيد الكرّة.
صيصان السفارات، كما إعلام طحنون بن زايد وتركي آل الشيخ ودوروثي شيا، قرروا أن التظاهر أمام العدلية مخالف لقواعد العمل السياسي. فبحسب دساتيرهم، لـ«الصفوة»، فقط، حق الدعوة إلى نسف النظام، أما «الرعاع» فلا حق لهم حتى بالاحتجاج على سلوك قاض يقود البلاد نحو الفتنة الكبرى. وجد هؤلاء أن ما حصل في الطيونة لا يعدو كونه إشكالاً تسبب به من دعا إلى التظاهرة، ولا حاجة إلى السؤال عن القاتل. وعند الحَشْرة. تبدأ لعبة السرديات:
أين هم مسلحو القوات اللبنانية حتى تتهموا هذا الحزب الأخضر وملاكه القائد بسفك الدماء؟ أين صورهم وأسلحتهم وصراخهم وصوتهم المرتفع؟ فيما يُبرزون صور مسلحين من حركة أمل انتشروا في المنطقة بعد تعرّض تظاهرتهم لإطلاق النار. ورغم أن عراضات أمل لم تكن يوماً موفقة وفعّالة، لا في الشكل ولا في المضمون، إلا أن القاتل وحماته وإعلامه قرّروا أن هؤلاء هم من ارتكب المجزرة، ويُسلّطون الكاميرات على زجاج واجهة محطمة ليُثبتوا لنا أن ما حصل لم يكن سوى رد فعل على غزوة قام بها زعران ضد منطقة آمنة!
مع ذلك، فإن أياً من هؤلاء لا يشرح لنا ما الذي حدث. من سفارات القتل والقهر والسرقة التي تمثل أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والسعودية والإمارات، إلى الجيش والقوى العسكرية والأجهزة الأمنية على اختلافها، إلى الأحزاب والقوى الثورية التي تريد استعادة رونق الزمن الجميل في بلاد الأرز، إلى الصيصان الذين يقترحون أنفسهم بدلاء لإدارة ما تبقى من دولة، إلى قضاة اختارهم النظام الفاسد ويريدون إقناعنا بأنهم ينتفضون للكرامة الوطنية حتى ولو شاركوا في التحريض على ما يقود إلى جريمة بحجم حرب أهلية، وبعضهم الآخر تجمّع في ناد لا يميّز بين القاتل والضحية، ولا يرى في كل ما يحصل سوى حصانة مطلقة لقاض لا يُرد حكمه ولو كان على شكل فتنة… مروراً بجمعيات الصيصان وأحزابها بكل تلاوينها وأشكالها، وصولاً إلى البيان – المأساة، الذي أصدره الحزب الشيوعي السابق محملاً المتظاهرين مسؤولية مقتلهم…
حسناً، قرر زعران من الشياح غزو عين الرمانة لا التوجه إلى قصر العدل. لكنهم، بدل التوجه مباشرة إلى الأحياء المقابلة لزواريبهم كما يُتهمون دائماً، سلكوا طريقاً بعيداً يتطلب منهم جهداً كبيراً للوصول إلى قلب «قلعة» فأر معراب. لكن تبيّن أن هؤلاء الزعران، الذين يقول «الحكيم» إنهم من مقاتلي حزب الله، لا يعرفون عن القتال شيئاً. فلا هم قاتلوا إسرائيل وهزموها ولا قاتلوا الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين وهزموهم في لبنان وسوريا والعراق وفلسطين، ولا هم الذين تقول السعودية إنهم يقودون الحرب ضدها في اليمن، بل تبيّن، بحسب خبرات الفوج المجوقل في القوات اللبنانية، أنهم ليسوا سوى هواة متى ظهر أمامهم المحترف الذي يتقدم حيث لا يجرؤ الآخرون. هكذا، في لحظة واحدة، تحوّل حزب الله الذي يقول هؤلاء إنه متخصص في القتل والتفجير والاغتيال والحروب المعقّدة، إلى هاو سقط أمام جبروت وحدة الحماية في معراب…
هذا ما يردّده القواتيون في معرض زهوهم، ومفاخرتهم أمام مشغليهم العرب والغربيين، حتى يقول حاقد تافه مثل بيار أبي عاصي إنه لن يوجه تحية للضحايا، ويلوّح مجانين «القوات» بأنهم مستعدون لـ«تربية» من تسوّل له نفسه «رفع راسه» في زعيترية المتن والنبعة وبرج حمود وبلاد جبيل، ويُسمع بعضهم مسلمين يقطنون في أحياء بيروت والمتن وكسروان بأن يختاروا الصمت أو الرحيل… فيما يصرّ الفريق الذي يحمي القتلة على أن إطلاق النار لم يصدر سوى من جانب «زعران الشياح» الذين قتل وجرح نحو مئة منهم، فيما لم يصب أي من خصومهم!
لكن، لنراقب من أين تريد القوات أن تبدأ حصاد الجريمة. بدأ موفدون يؤكدون أنهم لا يريدون حرباً مع الشيعة، وفي بال بعضهم أن «زعران الشياح» أنفسهم هم من أنقذوهم من ميشال عون نهاية الثمانينيات وأن التواصل يومي مع أبناء الشياح للتنسيق في محاصصة زبائن مولدات الكهرباء وكابلات التلفزيون والسوق السوداء في المازوت والبنزين والغاز. تريد القوات أن تجني «الثمار» في المكان الصحيح حيث يمكن إفهام سامي الجميل وابن عمه نديم بأنهما لا يساويان شيئاً، وإبلاغ من يهمهم الأمر من جماعات المجتمع المدني، من ميشال معوض وبيار عيسى إلى مجموعة «نحو الوطن»، بأن كل هؤلاء مجرد واجهات انتهى دورها، ولا مكان لها خارج عباءة القوات، بالتالي إفهام الأميركيين والسعوديين، ومعهم بقية الغربيين، بأنهم الجهة الوحيدة القادرة على مواجهة المقاومة في لبنان. وعلى «البيعة»، لا ضير بأن يحفظ وليد جنبلاط وسعد الحريري صورة الطيونة جيداً حتى لا يحاولان تجاهل جعجع في أي استحقاق مقبل.
هكذا يبدأ الجنون، وهذا ديدن القوات اللبنانية بفكرها الطائفي المقيت، وعقلها السياسي المنغلق، وعقد قائدها النفسية، وهذا ما يجب على التيار الوطني الحر أن يفهمه جيداً قبل أي أحد آخر، لأن قاموس القوات لا يتيح للتيار مكاناً لا تحت عباءتها ولا حتى في ظل شرفة بعيدة، بل وعيد بالسحل والإبادة انتقاماً لثلاثة عقود…
مع ذلك، ينبغي تكرار لفت انتباه من يهمهم الأمر، ولإشعار من يجب أن يتحمل المسؤولية، أن الدماء التي سفكت ليست من دون أولياء، وأن أمام الناس الغيورين على هذه البلاد مسؤولية على شكل فرصة لمحاسبة القتلة الحقيقيين. ومن يتهرب من المسؤولية ليس سوى شريك كامل الأوصاف في جريمة سيُحاسَب المسؤول عنها… حتماً!