الكاتب – ابراهيم ريحان
مَن كان ليصدّق أنّ لبنان سيكون بوّابةً لتعويم نظام الأسد في المنطقة؟
خلال زيارة الملك الأردنيّ عبد الله الثّاني إلى البيت الأبيض في منتصف تمّوز الماضي، صارَحَ صديقه الأميركيّ، الرئيس جو بايدن، بمخاوف بلاده من تفلّت الوضع الأمنيّ وانهيار الاقتصاد في لبنان. وقال له: “هذا الانهيار ستكون له عواقب وخيمة على الأردن الذي يضمّ ملايين اللاجئين والنّازحين بين فلسطينيّين وسوريين وعراقيين”.
هذا ما كشفته مصادر أميركيّة رسميّة لـ”أساس”، وقالت إنّ “عبد الله الثّاني يخشى من موجة نزوح من لبنان تجاه الأردن في حال انهار الوضع بشكلٍ دراماتيكيّ في لبنان. فقد أكّد لبايدن أنّ بلاده لا تستطيع تحمّل أيّ موجة نزوح قد تنطلق من لبنان نحو الأراضي الأردنيّة، خصوصاً من السّوريين والفلسطينيين، لِما لذلك من عواقب وخيمة على بلاده التي تواجه أساساً أزمة اقتصاديّة قاسية بفعل النّزوح السّوري وإقفال الحدود وأزمة فيروس كورونا”.
كانت هذه الأسباب أوّل ما دفع الأردن إلى طلب استثناء من واشنطن لاستجرار الغاز الطّبيعيّ والكهرباء إلى لبنان، والتي بحسب المصدر قد تُعطي مُتنفّساً في أزمة الكهرباء والوقود في لبنان. بالإضافة إلى الرّبح الاقتصاديّ للأردن بسبب موقعه كحلقة ربطٍ في خريطة الطّاقة بين دول الشّرق الأوسط وأوروبا.
وكان هذا السّبب أيضاً هو الدّافع إلى أن يكون رئيس الوزراء الأردنيّ بشر الخصاونة أوّل مسؤولٍ عربيّ رفيع المُستوى يزور لبنان بعد تشكيل حكومة نجيب ميقاتي. فالأردن يتعامل مع لبنان كمسألة أمنٍ قوميٍّ وليسَ من باب الموقف السّياسيّ “الخارجي”، تماماً كما هو الحال في تعامل المصريّين مع الأزمة اللبنانيّة.
هذه الرّواية تجد جذوراً لها في مقالةٍ لمُنسّق ملفّ الشّرق الأوسط في البيت الأبيض بريت ماكغورك نُشِرَت سنة 2019 في مجلّة International Affairs، وجاءَ فيها: “على الولايات المُتّحدة أن تكُفّ عن مُعارضة الجهود التي يبذلها شركاؤها العرب (في إشارةٍ إلى دولة الإمارات ومصر) للتطبيع مع الأسد. وعليها تشجيع شركائها في الدّاخل السّوريّ، مثل قوّات سوريا الدّيموقراطيّة، على إبرام صفقة مع الأسد حتّى تتمكّن القوّات الأميركيّة من المغادرة، ويُمكن لروسيا والنّظام تولّي المسؤوليّة هناك”.
يومذاك لم يكن سهلاً على الأردنيّين تطبيع العلاقات مع النّظام السّوريّ، وذلك لسببين رئيسيَّيْن:
الأوّل، وجود إدارة دونالد ترامب في البيت الأبيض. وهي الإدارة التي اعتمدت مبدأ “الضغط الأقصى” في وجه إيران وحلفائها، وفي مُقدّمهم النّظام السّوريّ وحزب الله في لبنان.
الثّاني، وجود بنيامين نتانياهو في سدّة الحكم في إسرائيل. وفي تلكَ المرحلة كان الملك عبدالله الثّاني يواجِه ضغطَ “صفقة القرن” التي كان يدفع بموجبها نتانياهو، ومعه ترامب وإدارته، صوب تحويل الأردن إلى وطنٍ بديلٍ للفلسطينيّين.
أمّا اليوم فالوضع تحوّل لمصلحة عبد الله الثّاني. فصديقه جو بايدن دخلَ المكتب البيضاويّ رئيساً للولايات المُتّحدة. وفي تل أبيب، صارَ نتانياهو على مقاعد المُعارضة خارجَ الحُكم يواجه تهماً بالفساد قد تُنهي مسيرته السّياسيّة في حال لم يخرج من أزمته بأقلّ خسائر ممكنة. ومع خروج ترامب ونتانياهو، خرجت معهما “صفقة القرن” إلى رفوف الأرشيف في البيت الأبيض.
“قُلتُ لهم منذ البداية إنّ إسقاط الأسد ليس بالأمر السّهل”، أجاب الملك الأردنيّ قبل أسابيع قليلة، في مُقابلةٍ مع شبكة CNN الأميركيّة، وذلك بعد زيارته البيت الأبيض، حيث استطاع انتزاع استثناء، شفهيّ حتّى الآن، للأردن ومصر ولبنان من عقوبات قانون “قيصر” لاستجرار الكهرباء والغاز الطّبيعيّ إلى لبنان عبر الأراضي السّوريّة.
وأمس خرجت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركيّة بمقالةٍ تكشف أنّ الإدارة الأميركيّة “لن تُعارض التّطبيع مع النّظام السّوريّ على الرّغم من اعتراضها العلنيّ”. وأضافت الصّحيفة المُقرّبة من الدّيموقراطيين: “إدارة بايدن لن تُكافح بنشاطٍ هذا الاتجاه التطبيعيّ مع سوريا بعد الآن”.
ما الذي يدفع العاهل الأردنيّ، الذي كان أوّل مَن حذّر قبل اندلاع شرارة الثّورة في سوريا بأعوام من “الهلال الشّيعي المُمتدّ من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق”، إلى التطبيع مع نظام الأسد اليوم؟
هناك العديد من النّقاط، أبرزها الأزمة اللبنانيّة المذكورة أعلاه، لكن هناك غيرها:
1- يعتبر الملك الأردنيّ منذ بداية الأزمة، بحسب تصريحه لـCNN، أنّ إسقاط رئيس النّظام السّوريّ بشّار الأسد ليست بالأمر السّهل. ولهذا اعتمد الأردن لهجةً أكثر دبلوماسيّة تجاه دمشق وإن تضمّنت إداناتٍ لسلوك النّظام، لكنّها لم تصل إلى حدّ العداوة. وقد قرّر العاهل الأردنيّ التّعامل مع دمشق ببراغماتيّة، خصوصاً بعد تمكّن قوّات النّظام السّوريّ من السّيطرة على معبر جابر – نصيب مع الأردن.
ومن هذا المُنطلقِ أيضاً، أبقى الأردن على القنوات الأمنيّة مفتوحةً مع النّظام السّوريّ طوال فترة الأزمة. وتُوِّجَ هذا التّواصل بلقاءٍ بين الملك عبد الله ونائب الرّئيس السّوريّ للشّؤون الأمنيّة اللواء علي المملوك ومدير الاستخبارات الأردنيّة اللواء أحمد حسني في وقتٍ سابقٍ من هذا العام، بعيداً عن الإعلام. وذلك بحسب مصادر خاصّة بـ”أساس”.
2- توجّس الأردن من الفصائل المُسلّحة في الجنوب السّوريّ، التي يوالي كثيرٌ منها تنظيم الإخوان المُسلمين. وبحسب مصادر أردنيّة فإنّ هذه المسألة ليستَ تفصيلاً، بل هي مسألة تتعلّق بالأمن القوميّ الأردنيّ وسلامة نظام الحُكم في الأردن. وفي هذا السياق، تؤكّد المصادر لـ”أساس” أنّ التّواصل مع دمشق يُساعد كثيراً في قطع أيّ احتمال لتمدّد هذه الجماعات عبر خلايا نائمة داخل الأردن. وأشارت المصادر إلى أنّ التنسيق الأمنيّ مع دمشق أثمرَ إحباط العديد من محاولات “زعزعة الأمن والاستقرار في الأردن”، من دون أن تكشف عن أيّ تفاصيل.
3- مشروع الشّام الجديد، الذي تسعى مصر والأردن والعراق، عبر الحلف الثّلاثي بينها، إلى ضمّ سوريا إليه، وربّما لبنان في وقتٍ لاحق. وتسعى الدّول الـ3 من خلال هذا الحلف إلى إيجاد سوقٍ مُشتركةٍ وتحالفٍ سياسيٍّ يجعل منها لاعباً إقليميّاً ودوليّاً في وقت لاحق.
4- لم تكن مشاهد الانسحاب الأميركيّ من أفغانستان عابرة. فالأردن المُجاور لسوريا يعلم أنّ الولايات المُتّحدة قد تنسحب في الأشهر المُقبلة من سوريا. ويعلمُ أيضاً أنّ أيّ انسحابٍ للقوّات الأميركيّة من سوريا لن يكون إلّا لمصلحة النّظام السّوريّ ومعه روسيا وإيران. ولذلك لم تعد مسألة بقاء النّظام السّوريّ أو عدمه أولويّة لدى إدارة الرّئيس بايدن.
هي البراغماتيّة الأردنيّة التي وجدَت الوقت المُناسب لها إقليميّاً ودوليّاً للتّطبيع مع النّظام السّوريّ. وبذلك يكون الأردن الدولة العربيّة الوازنة الثانية التي تُعيد العلاقات مع نظام الأسد بعد دولة الإمارات، في حين أنّ مصر لم تقطع الديبلوماسية مع سوريا. كلّ واحدةٍ من هذه الدّول طبّعت مع دمشق لا غراماً بنظامها، بل حرصاً على عدم زعزعة أمنها القوميّ، خصوصاً من قبل الحركات الإسلاميّة المُتطرّفة.
فهل يكون التّطبيع مع الأسد عاملاً لإبعاده عن إيران؟ أم أنّ هذا لن يغيّر شيئاً في هذا الإطار؟
الأيّام كفيلة بالإجابة، والثّاني أكثر ترجيحاً….
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع