الصفيح الساخن… إيران و«إسرائيل»: من المشرق إلى أذربيجان!
الكاتب – د. عدنان منصور / البناء
لم تكن مناورات «فتح خيبر» التي أجرتها وحدات عسكرية إيرانية، على الحدود الإيرانية ـ الأذربيجانية، مناورات روتينية عادية، حيث شاركت فيها قوات مدرّعة، ومدفعية، ولواء جوي، بمقدار ما كانت رسالة تنبيه وتحذير لقادة أذربيجان، والتي قوبلت بعد أيام بنشر قوات أذربيجانية وتركية على طول الحدود مع إيران.
لا تبتغي إيران بهذه المناورات استفزاز أذربيجان، وإنما أرادت أن تعبّر عن هواجسها، ورفضها وامتعاضها من القيادة الأذربيجانية على تماديها في علاقاتها مع «إسرائيل»، والتصريحات والتحركات الاستخبارية، والعمليات الإرهابية «الإسرائيلية» التي تتخذ من الأراضي الأذربيجانية منطلقاً لاعتداءاتها في الداخل الإيراني.
على رغم أن أذربيجان تعرف حجمها المتواضع الذي لا يقارن بحجم إيران مساحة وتعداداً بشرياً وقوة عسكرية ضاربة، وتفاوتاً كبيراً في الموازين العسكرية بين جيشي البلدين، إلا أن أذربيجان تعتمد على الدعم التركي المتواصل لها، دعم ترجمته أنقرة على الأرض بوضوح، أثناء الحرب الأخيرة بين أرمينيا وأذربيجان، والتي قلبت موازين القوة لصالح باكو. إضافة إلى اعتماد أذربيجان على الدعم «الإسرائيلي» الذي وجد ملاذاً فيها، من خلال تزويدها بالأسلحة المتطورة، والمسيّرات الدقيقة.
باكو ترى في تركيا و»إسرائيل» أنهما تشكلان دعماً وحماية لها، أمام أي صدام عسكري قد يحصل مع إيران أو غيرها في المستقبل.
مما لا شك فيه، أن العلاقات الإيرانية ـ الأذربيجانية، ليست على ما يرام وتشويقها الحذر. إذ بعد خروج أذربيجان من الاتحاد السوفياتي، وتقلّد حيدر علييف السلطة في البلاد عام 1993، بدأت المخاوف كما الحذر، والقلق، يثير حفيظة إيران، مما يجري على مقربة من حدودها. بخاصة بعد أن بدأت تعلو نبرة الخطاب القومي لباكو، الذي يذكر من آن إلى آخر بأذربيجان الجنوبية، وهي المنطقة الواقعة داخل إيران والتابعة لها، بموجب اتفاقيتي كلستان عام 1813، وتركمنشاي عام 1828، الموقعتين بين روسيا القيصرية، وفارس (إيران)، واللتين كرّستا حق إيران فيها.
إن الولايات المتحدة، وتركيا، و»إسرائيل»، بما لديها من نفوذ واسع داخل أذربيجان، تدعم باكو متوخّية من ذلك عدة أهداف مشتركة بينها:
1 ـ تحريك النزعة الانفصالية للمنطقة الأذرية الجنوبية داخل إيران. إذ تشكل مساحة جمهورية أذربيجان فقط ثلث مساحة أذربيجان الجنوبية التابعة لإيران. ما يجعل تحريك وإثارة النزعة الانفصالية، أن تنتقل عدواها مستقبلاً إلى القوميات الأخرى في إيران، ومن ثم تفتيت وحدتها ونسيجها الوطني، وهو هدف ترمي إليه «إسرائيل» وأذربيجان وتركيا ومن ورائها واشنطن.
2 ـ إبعاد وعزل التأثير السياسي، والعقائدي والديني، والثقافي، للجمهورية الإسلامية الإيرانية عن جمهورية أذربيجان ذات النظام العلماني، إذ إن كلا الشعبين، يشكلان الغالبية العظمى من المسلمين الشيعة.
وإنّ أيّ تواصل بين الشعبين بنظر باكو وأنقرة سيصبّ في صالح إيران، وسيستنهض من جديد المشاعر الروحانية، والانتماء الديني عند الشعب الأذربيجاني.
3 ـ تعزيز الحضور الاستخباراتي «الإسرائيلي» لـ «الموساد» في أذربيجان، وذلك من خلال ما يقوم به من أعمال التجسّس وجمع المعلومات العسكرية والأمنية والعلمية عن إيران، وبالذات عن كلّ ما يتعلق ببرنامجها النووي. هذا التجسّس على إيران تحدثت عنه وأشارت إليه صحيفة «التايمز» البريطانية، في عددها الصادر يوم 11 شباط 2013. مع الإشارة إلى أن أذربيجان كانت عام 2016، ثاني أكبر مستورد للسلاح من «إسرائيل»، والثالثة عام 2017. وبين عامي 2017 و 2019، تجاوزت مبيعات الأسلحة «الإسرائيلية» لأذربيجان الـ 750 مليون دولار وفقاً لبيانات المعهد الدولي لأبحاث السلام في ستوكهولم SIPRI.
سبق للرئيس الأذربيجاني إلهام علييف أن أعلن عام 2016، أن بلاده اشترت معدات دفاعية من «إسرائيل» قيمتها 4.85 مليار دولار. هذه المعدات ضمنت لأذربيجان في ما بعد، التفوّق العسكري على أرمينيا، والذي مكنها بسرعة، مع دعم تركي ملموس، من حسم الحرب على أرمينيا لصالحها.
تركيا من جهتها تطمح جغرافياً بوصل أذربيجان الغربية (نخجوان) التي تقع على حدودها، بأذربيجان ( باكو)، حيث تفصل بينهما أرمينيا عبر ممر يربط أرمينيا بإيران.
هذا الوصل يشكل لأنقرة أهمية استراتيجية كبيرة، يعزز من تأثيرها ونفوذها وامتدادها التركي، إلى دول وسط آسيا وصولاً إلى قيرغيستان.
4 ـ تعمل أنقرة وباكو على تفكيك العلاقة المتينة والقوية التي تربط إيران بأرمينيا. إذ تزوّد طهران يارافان بالطاقة التي تحتاجها. كما أن أرمينيا توفر لإيران ممراً آمناً للنقل البري إلى روسيا ومنها إلى أوروبا. ما يخدم المصالح
المشتركة للبلدين، لا سيما أن أرمينيا تقع بين فكي كماشة لعدوين لدودين لها: أذربيجان من الشرق، وتركيا من الغرب.
إنّ الشراكة الإيرانية ـ الأرمينية تثير عدم ارتياح باكو وأنقرة لها. وهذا ما يعمّق الفجوة بين إيران وأذربيجان، حيث تجد باكو في تركيا معبراً لنفطها وغازها إلى أوروبا، لينافس مصادر الطاقة الإيرانية.
5 ـ جعل أذربيجان مصدر تهديد دائم لإيران من الشمال. منها تنطلق الزمر والمجموعات المسلحة، والعناصر الإرهابية القادمة من الخارج، مدعومة من الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية، و»بمباركة» ضمنية تركية، للقيام بعمليات إرهابية داخل الأراضي الإيرانية، تطال أهدافاً مدنية وعلمية وعسكرية، لضرب الأمن القومي والاستقرار الداخلي الإيراني.
زمر تديرها وتدرّبها وتخطط لها الاستخبارات «الإسرائيلية» بشكل مباشر من داخل الأراضي الأذربيجانية. إذ أصبحت أذربيجان بمثابة حصان طروادة لـ «إسرائيل» ضدّ إيران، وجبهة متقدّمة لها للتجسّس «الإسرائيلي» المباشر عليها، وفي ما بعد، القيام بعمليات تهدّد في الصميم سلامها وأمنها القومي.
6 ـ كانت أذربيجان من الدول الإسلامية القليلة التي طوّرت منذ عام 1992 علاقات ثنائية سياسية واقتصادية وعسكرية وسياحية وأمنية واستراتيجية وتجارية مع «إسرائيل»، حتى أصبحت وجهة سياحية لـ «الإسرائيليين»، بحيث أن عدد السياح الإسرائيليين وصل إلى 50 ألف سائح سنوياً قبل وباء كورونا.
تجدر الإشارة إلى أن «إسرائيل» كانت الدولة الرابعة التي اعترفت مبكراً بأذربيجان عام 1992، بعد انسحابها من الاتحاد السوفياتي، لتقوم بعد ذلك بافتتاح سفارتها في باكو عام 1993.
في ما بعد تنامت العلاقات الثنائية بسرعة لتصبح أذربيجان شريكاً استراتيجياً لـ «إسرائيل»، معززاً بوجود ثلاثين ألف من اليهود الأذربيجانيين، ما دفع بالباحثين المتتبّعين للشأن الأذربيجاني ـ «الإسرائيلي»، بوصف أذربيجان على أنها «أقرب شريك إسلامي لإسرائيل». إذ تستورد «إسرائيل» 40 في المئة من نفط أذربيجان المصدّر للخارج. كما أن حجم التبادل التجاري بينهما وصل إلى 5.7 مليار دولار سنوياً.
على رغم أن طهران وقعت عامي 2018 و 2019، اتفاقات اقتصادية مع باكو، وأكدت احترام وحدة أراضي جمهورية أذربيجان، وفقاً للاتفاقيات والقرارات الدولية، إلا أن أذربيجان لا تنفك عن استفزاز إيران في أكثر من مناسبة، بخاصة عند تنظيم اجتماعات لفعاليات عديدة في العاصمة باكو، حيث تعلو فيها أصوات الجبهة الشعبية لتحرير أذربيجان الجنوبية !
لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل ذهب عدد من أعضاء البرلمان الأذربيجاني قبل سنوات للمطالبة بتغيير اسم الدولة من جمهورية أذربيجان إلى جمهورية أذربيجان الشمالية، وذلك للتأكيد على مطالبة باكو في ما بعد، بأذربيجان الجنوبية التابعة لإيران.
زعيم الجبهة الشعبية لأذربيجان الموحدة، قدرت حسن غولييف، ذهب بعيداً عندما طالب بمراجعة المعاهدتين الموقعتين كلستان وتركمنشاي المشار إليهما آنفاً.
تستمرّ أذربيجان بسلوكها وإجراءاتها التي تثير حفيظة الإيرانيين، الذين يتابعون عن كثب تطورات الأمور، والإجراءات الأذربيجانية بحسابات دقيقة. فمع مطلع شهر أيلول الفائت، تعرّض سائقو الشاحنات الإيرانية التي تدخل إلى إقليم نوغورني قرباخ، لمضايقات من قبل السلطات الأذربيجانية. تبع ذلك في ما بعد، خطوة لجأ إليها الرئيس إلهام علييف برفع التعرفة الجمركية على الشاحنات الإيرانية من 130 دولاراً على الشاحنة إلى300 دولار بغية التضييق على حركة التجارة بين إيران وأرمينيا.
تبع هذا الإجراء، قيام تركيا وأذربيجان بمناورات برية مشتركة في منطقة أذربيجان الغربية (نخجوان)، رداً على المناورات الإيرانية الأخيرة، ثم أتبعتها تركيا بإغلاق معابرها الحدودية أمام الشاحنات الإيرانية منذ ثلاثة أيام، على خلفية التوتر على الحدود الإيرانية – الأذربيجانية، ما أدّى إلى توقف الحركة التجارية بين البلدين بشكل كامل.
لا شكّ في أن «إسرائيل» من خلال علاقاتها الاستراتيجية مع باكو، ومعها واشنطن وأنقرة، تريد أن تجعل من الأراضي الأذربيجانية منصة تنطلق منها لضرب أهداف إيرانية إذا ما لزم الأمر. وهذا ما تدركه طهران جيداً، وتحسب حسابه بكلّ دقة، وهي بالمرصاد ومتأهّبة لأيّ استفزاز أو عمل عدواني من أيّ جهة أتى، ولديها القوة الضاربة الكفيلة للردّ السريع على أيّ اعتداء على أرضها. وهذا ما يأخذه العدو «الإسرائيلي» وحليفته أذربيجان في الاعتبار، حيث الذراع الإيرانية طويلة، وقادرة على قطع اليد التي تمتدّ إليها، ومن أيّ جهة أتت !
تريد تل أبيب إبعاد طهران عن الجبهة المشرقية، وإلهائها بجبهة أخرى، وهي الجبهة الشمالية في منطقة القوقاز حيث تكون أذربيجان المطية لأهداف تل أبيب وأنقرة وواشنطن، وهم في مواجهة إيران ونفوذها، وعلاقاتها الواسعة، وحضورها القوي والفاعل على الساحة المشرقية.
لا تنفكّ «إسرائيل» عن التهديد بضرب المفاعلات النووية الإيرانية، وهي تحث باستمرار واشنطن على القيام بعمل عسكري ضدّ المنشآت النووية بعد أن رفضت طهران التوقف عن السير في برنامجها النووي، وقاومت الضغوط والعقوبات الأميركية عليها.
إن أيّ عمل عسكري «إسرائيلي» ضدّ إيران، لن يضير باكو، ولن يثير حفيظة واشنطن، ولن يزعج أنقرة، التي ترى في العمق، أن ليس من صالحها وجود دولة كبرى قوية على حدودها.
إنّ سماح باكو للقوات الجوية «الإسرائيلية» والأميركية ـ إذا حصل ـ باستخدام قواعدها العسكرية القريبة من طهران للإنطلاق منها، لضرب أهداف إيرانية استراتيجية، سيفجّر المنطقة القوقازية والمشرقية على السواء. إذ إن روسيا لن تتقبّل تغييراً استراتيجياً على مقربة من حدودها، يعزز من الحضور العسكري الأميركي والتركي و»الإسرائيلي» على حساب أمنها القومي ومجالها الحيوي.
إن أيّ عدوان عسكري «إسرائيلي» أو أميركي، ينطلق من المنصة الأذربيجانية أو غيرها على إيران، ستكون له تداعياته الخطيرة، ولا أحد يستطيع التنبّؤ بنتائجه المدمرة، بخاصة أن إيران ستردّ وستلاحق من يعتدي عليها مباشرة أو بالواسطة، في عقر داره. فهي لا تفرّط بأمنها القومي وبوحدة أرضها وسيادتها مهما كلف ذلك من ثمن.
هل تعي باكو خطورة ما تفعله من استفزازات ضدّ إيران، قد تشعل حرباً تحترق هي بها، ولا تصبّ في صالحها؟ أم أنها أرادت من تلقاء نفسها أن تكون مطية لواشنطن وأنقرة، وحصان طروادة لدولة العدوان «الإسرائيلية»، ومن دون أن تدرك أن على حدودها دولة كبرى، حاضرة، واثقة، متأهّبة في كلّ وقت للتصدي لأيّ عدوان، ولبتر اليد التي تريد النيل منها.
فمن يجرؤ بعد ذلك، على مغامرة حمقاء ضدّ طهران ليضع القوقاز والمشرق على صفيح ساخن؟!
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع