ٍَالرئيسيةتحقيقات - ملفات

خطاب بايدن في الأمم المتحدة يسيء فهم الهدف الأساسي لـ “الحروب الأبدية” – في الشرق الأوسط وأماكن أخرى

 

الكاتب : عيدو ليفي

يجب أن يكون سقوط كابول بمثابة تحذير لما قد يحدث إذا انسحبت القوات الأمريكية من العراق أو سوريا. على الرئيس الأمريكي بايدن أن يعيد التأكيد علناً على دعم إدارته لحلفاء واشنطن في الشرق الأوسط وأن يوضح أن الانسحاب من أفغانستان لا يشير إلى نية الانسحاب من العراق وسوريا أيضاً.

في الحادي والعشرين من أيلول/سبتمبر، ألقى الرئيس الأمريكي جو بايدن خطابه الأول كرئيس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولم يُظهر أي مؤشر على الندم بسبب قراره المتسرع بالانسحاب من أفغانستان، رغم استعادة “طالبان” السيطرة على البلاد دون معارضة تقريباً من قبل الجيش الأفغاني، الذي انهار بسرعة في غياب الدعم الأمريكي الذي كان يعوّل عليه سابقاً.    

 

وأعلن بايدن أن الولايات المتحدة لن “تخوض بعد الآن حروب الماضي”. وشدّد على أنه يعتزم استخدام الدبلوماسية وتعددية الأطراف عند الإمكان لأنه “لا يمكن اليوم حلّ العديد من مخاوفنا الكبرى أو حتى معالجتها بقوة السلاح”.

ومع ذلك، شدد أيضاً على التزامه بدعم حلفائه، قائلاً إن الولايات المتحدة ستواصل “العمل بالتعاون مع الشركاء المحليين كي لا نحتاج إلى الاعتماد بشكل كبير على الانتشار العسكري الواسع النطاق”. ويبدو أنه لم يدرك أن مساعي الماضي التي رفضها في خطابه هي نفسها التعاون مع الحلفاء الذي يناشد به.

ويستمر موقف بايدن في النمط الذي بدأ في عهد الرئيس باراك أوباما واستمر مع الرئيس دونالد ترامب، والمتمثل بـ: تصوير الانخراطات العسكرية المتواصلة في الشرق الأوسط على أنها “حروب أبدية” – أي نزاع لا نهاية له يكون فيه تدخل الولايات المتحدة مكلفاً بشكل مفرط، ولا يمكن أن يُحدث فرقاً ويؤدي فقط إلى تفاقم الوضع القائم – من دون الإقرار بأن هذه الانخراطات هي في الواقع مكوّن حيوي طويل الأمد في المقاربة الأساسية للأمن الأمريكي حول العالم. واقتباساً بما قاله ترامب حين كان مرشحاً للرئاسة في عام 2015، “الشرق الأوسط هو مستنقع ضخم”. أما الموقع الإلكتروني لحملة بايدن للرئاسة فقد صاغ هذا القول بشكل أكثر حساسية، ولكن المعنى بقي ذاته: “سينهي بايدن الحروب الأبدية في أفغانستان والشرق الأوسط، والتي كلفتنا دماءً وأموالاً لا توصف”.

غير أن مصطلح “الحرب الأبدية” يحث الأمريكيين على النظر إلى التزامات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط على أنها فشلت في تحقيق الهدف المفترض المتمثل في تحقيق فوز سريع يليه انسحاب. وبدلاً من ذلك، تبني عمليات الانتشار الصغيرة نسبياً على علاقات طويلة الأمد مع الحلفاء الذين يقدمون تضحيات كبيرة لتعزيز المصالح المشتركة وحقوق الإنسان والاستقرار، التي تعزز أمن الولايات المتحدة. ويحافظ الانخراط العسكري الأمريكي المستمر على هؤلاء الشركاء والشراكات، مما يساعد على ضمان عدم تطوّر النزاعات وبروز كوارث إنسانية. إنها الأدوات ذاتها التي تسفر عن تحالفات قوية وشراكات محلية أعرب بايدن أنه يرغب [في تحقيقها].    

وبدلاً من التركيز على “الحرب الأبدية”، على الولايات المتحدة أن تدرك أن الوجود الأمريكي المحدود في البلدان الأجنبية هو مكوّن مهم لـ “السلام الأبدي” في الداخل. وبالفعل، فإن ترسيخ وجود قوات دائمة في ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية لعقود من الزمن من أجل دعم تطوير هذه الدول وتحقيق الديمقراطية فيها والدفاع عنها ضد الخصوم المشتركين مثل روسيا والصين، قد عاد بالفائدة على الأمن القومي للولايات المتحدة.

ويمكن أن تكون العلاقة بين الجيش الأمريكي وشركائه في الحرب ضدّ تنظيم «الدولة الإسلامية» المتشدد في الفترة 2014-2019 بمثابة نموذج للتغير الضروري في المواقف. ففي العراق، استحوذ تنظيم «داعش» سريعاً على الأراضي في عام 2014، وردّت الولايات المتحدة بضربات جوية ونشرت في النهاية أكثر من 5,000 جندي لتدريب وتمكين قوات الأمن العراقية (الجيش الوطني العراقي والشرطة العراقية) وقوات “البشمركة” الكردية (جيش «حكومة إقليم كردستان» التي تتمتع بالحكم الذاتي في شمال العراق) لدحر تقدّم «داعش». وأدى تأسيس “التحالف الدولي لهزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية»” إلى تجميع موارد حلفاء الولايات المتحدة وتعزيز دعم الدفاعات العراقية. وكانت المعلومات الاستخباراتية والمشورة التكتيكية والدعم الجوي واللوجستي المقدّم من التحالف أساسياً لتمكين العراقيين من استعادة الأراضي من قبضة تنظيم «داعش».

واليوم، يعمل التحالف وقوات الأمن العراقية على كبح جماح فلول تنظيم «الدولة الإسلامية» بشكل فعال حيث تم نشر 2500 جندي أمريكي فقط، معظمهم لا يزالون يقدّمون التدريب والاستشارة للقوات العراقية بعيداً عن ساحة المعركة، بدلاً من مشاركتهم مباشرة في العمليات القتالية. ويتمثل العنصر الأكثر فعالية في الجيش العراقي بجهاز مكافحة الإرهاب الذي أنشأته الولايات المتحدة وتولت تدريبه، وهو بمثابة رأس الحربة في كافة المعارك الرئيسية ضد تنظيم «داعش» في العراق.

وقد أقامت الولايات المتحدة علاقات مماثلة مع «قوات سوريا الديمقراطية»، الميليشيا ذات الأغلبية الكردية العاملة في شمال شرق سوريا والتي تسعى في المقام الأول لتأمين الحكم الذاتي من الديكتاتور السوري بشار الأسد. ففي أواخر عام 2014، حين بدا أن تنظيم «الدولة الإسلامية» مصمم على الاستيلاء على مدينة عين العرب (“كوباني”) بالقرب من الحدود التركية والتوغل إلى بقية شمال شرق سوريا، أودت أكثر من 600 ضربة جوية شنها التحالف بحياة ما يقرب من6,000  جهادي ومكّنت الأكراد من استعادة المنطقة. وبعد ذلك، سمحت مساعدة التحالف للحلفاء السوريين للولايات المتحدة بمتابعة الجزء الأكبر من الحرب الميدانية لتحرير الأراضي السورية من قبضة تنظيم «داعش»، بما فيها الرقة – عاصمة التنظيم. والآن، تسيطر «قوات سوريا الديمقراطية» على جزء كبير من شمال شرق سوريا وتواصل تنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب بانتظام بدعم من التحالف، وإبقاء تنظيم «الدولة الإسلامية» بعيداً. وبحلول مطلع عام 2019، لم يتجاوز عدد القوات الخاصة الأمريكية المنتشرة لمساعدة «قوات سوريا الديمقراطية» 2000 جندي. 

تجدر الملاحظة أن القوات الأمريكية الشريكة في كل من العراق وسوريا، أظهرت استعداداً كبيراً للقتال، حتى بتكلفة باهظة، عندما حظيت بالتدريب المناسب والمعلومات الاستخباراتية والمشورة العملياتية والقوة الجوية. ووفقاً لتقارير القوات السورية قُتل أكثر من 11,000 من رجالها في الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» حتى عام 2019، بينما ناهز عدد ضحايا القوات العراقية  12,000 مقاتل حتى تموز/يوليو 2017، عندما انتهى القتال الأكثر حدّة في العراق. وخلال العمليات، منعت هذه القوات تنظيم «داعش» من ارتكاب المزيد من الفظائع وعزّزت حقوق الإنسان ودعمت المجتمع المدني في أراضيها. أما المحصلة بالنسبة للولايات المتحدة فتمثلت بـ 108 قتيل حتى الآن وما يناهز 14 مليار دولار من آب/أغسطس 2014 إلى حزيران/يونيو 2017.

وعندما يتعلق الأمر بأفغانستان، ركّز بايدن وغيره من منتقدي الحرب على سرعة استسلام الجيش الأفغاني لحركة “طالبان” وانهياره، رغم العقدين من الزمن اللذين أمضتهما الولايات المتحدة في بناء أسسه. واعتبروا ذلك دليلاً على أن القوات الأمريكية كانت تخاطر بحياتها في قضية ميؤوس منها. ففي اليوم الذي أعقب سقوط كابول في منتصف آب/أغسطس، برّر بايدن قرار الانسحاب من أفغانستان بطرحه السؤال التالي: “كم عدد الأجيال الأخرى من بنات وأبناء أمريكا الذين تريدون أن أرسلهم لمحاربة الأفغان – أي خوض الحرب الأهلية في أفغانستان – في حين تحجم القوات الأفغانية عن القيام بذلك؟”

لكن الجيش الأفغاني أثبت استعداده لمحاربة “طالبان” رغم الثمن الباهظ. فمنذ عام 2001 وحتى نيسان/أبريل [هذا العام]، قُتل ما يقرب من 66,000  عسكري وشرطي أفغاني في أفغانستان، إلى جانب 2448 من أفراد الخدمة الأمريكية. وفي الوقت نفسه، أدت العمليات العسكرية المشتركة بين الولايات المتحدة وأفغانستان، لا سيما عندما شاركت فيها نخبة من قوات المغاوير الأفغانية المدربة على يد الأمريكيين، إلى إبقاء حركة “طالبان” في حالة تأهب، وفي الغالب خارج المراكز السكانية الرئيسية. وحين ظهر تنظيم «داعش» في أفغانستان في عام 2015، ساهم الوجود الأمريكي الراسخ على الأرض في اتخاذ تدابير سريعة لمكافحة الإرهاب، شملت ضربات جوية وغارات كوماندو أمريكية – أفغانية مشتركة، التي قوّضت التنظيم بشكل ملحوظ بحلول مطلع عام 2017. ومن المحتمل أن يكون انسحاب الولايات المتحدة المفاجئ من أفغانستان قد أرغم على الأرجح الجيش الأفغاني على مواجهة ظروف غير مألوفة، مما أدّى في النهاية إلى انهياره – وإلى الكارثة الإنسانية التي نشهدها الآن.  

يجب أن يكون سقوط كابول بمثابة تحذير لما قد يحدث إذا انسحبت القوات الأمريكية من العراق أو سوريا. فالحلفاء العسكريون للولايات المتحدة في هذين البلدين لا يعرفون ببساطة كيفية القتال بفعالية في ساحات المعركة التقليدية من دون الدعم الأمريكي. وبالتالي، على بايدن أن يعيد التأكيد علناً على دعم إدارته لحلفاء واشنطن في الشرق الأوسط وأن يوضح أن الانسحاب من أفغانستان لا يشير إلى نية الانسحاب من العراق وسوريا أيضاً.

وفي أوروبا، يدعم الجنود الأمريكيون جيوش الدول الأعضاء في حلف “الناتو” ويردعون العدوان الروسي. أما في كوريا الجنوبية واليابان والمحيط الهادئ، فتقدّم القوات الأمريكية الدعم لدفاعات حلفاء الولايات المتحدة في شرق آسيا ضد الهجمات المحتملة من كوريا الشمالية والصين المستبدتين مع الحفاظ في الوقت نفسه على سيادة تايوان.

وفي الشرق الأوسط، يحدق خطر أكبر بالجنود الأفراد بما أن القوات الأمريكية تعمل في مناطق نزاع نشطة – ولكنها تقوم بذلك بأعداد أقل بكثير (حوالي 8,100 مقارنة بأكثر من 145,000 في أوروبا وشرق آسيا والمحيط الهادئ) ولأهداف مماثلة لحماية استقلال الحلفاء الديمقراطيين ومواجهة الجماعات الإرهابية أيضاً، حيث تتولى القوات الشريكة الجزء الأكبر من القتال.

وبالفعل، إذا كانت الولايت المتحدة على استعداد للاحتفاظ بأعداد ضخمة من القوات لدعم حلفائها في أوروبا وشرق آسيا، فلماذا لا تُبقي لها وجود محدود في الشرق الأوسط؟ لدى واشنطن واجب يتمثل في مواصلة الوفاء بهذا الالتزام المتواضع على الأقل تجاه حلفائها. لقد آن الأوان لأن تبدأ الولايت المتحدة بمعاملة شركائها على أنهم أصدقاؤها – سواء في أوروبا أو شرق آسيا أو أفغانستان أو الشرق الأوسط – لمنع تكرار أحداث مثل سقوط كابول.   

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى