هل تُنهي القمّة الروحيّة “انقسام المرفأ” الطائفيّ؟

 

رضوان السيد – أساس ميديا

رافقت جهود القادة الدينيّين في لبنان البلادَ في كلّ أزماتها، سواء من نوع آثار الحروب الإسرائيلية أو غياب الحكومة أو غياب رئيس الجمهوريّة أو الاختلاف على شؤون وطنيّة كبرى. ولا يزال اللبنانيّون يتذكّرون خلال النزاع الداخلي الشخصيّات الدينية الثلاث: البطريرك نصر الله صفير، ومفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد، والشيخ محمد مهدي شمس الدين رئيس المجلس الشيعي الإسلامي الأعلى. وقد أُسِّست بنتيجة الجهود والإرادات الطيّبة “القمّة الروحية” التي يلتقي فيها الجميع في المهمّات والملمّات، وغالباً لدى البطريركية المارونية أيام صفير والراعي. وإلى ذلك ينبغي أن نذكر لجنة الحوار المسيحي – الإسلامي، التي كانت تعقد اجتماعاتها الخاصة، أو تتوسّط لعقد القمّة الروحية. والواقع أنّ الرئيس الشهيد رفيق الحريري أعطى دفعةً خاصةً وقويةً للقمم الروحية باعتبارها تعبِّر عن الوفاق الوطني، والإجماع الوطني خلال الحرب على إنهاء النزاع، وبعد الحرب على وثيقة الوفاق الوطني والدستور، وإعادة الإعمار وبناء الدولة لتجديد العيش المشترك، وصنع المواطنة اللبنانية الجديدة.

 

وكما هو مشهورٌ إعلان الثوابت العشر الوطنية من دار الفتوى عام 1983، مشهورٌ أيضاً موقف البطريرك صفير الصلب مع وثيقة الوفاق الوطني والدستور، الذي كلّفه غضباً ساطعاً من الجنرال ميشال عون وصحبه في لبنان والمنافي. ومشهورٌ أيضاً وأيضاً عمل البطريركية مع الفاتيكان في التسعينيّات، وزيارة البابا لبنان. إنّما يبقى الأكثر تأثيراً في الوعي اللبناني المسيحي والإسلامي سينودس الكنيسة المارونية في عام 2006، الذي جدّد الالتزام بالعيش المشترك والدستور والسلم الأهليّ وقوّة الدولة واستقلالها وسيادتها.

لماذا هذا التقديم والتمهيد؟

لأنّه انقضت فترة طويلة على انعقاد آخر قمّة روحية، فضلاً عن كساد سوق لجنة الحوار الوطني وعدم اجتماعها. وهذا مع أنّ المشاورات الثنائية بين القادة الروحيين مستمرّة في شتّى المناسبات والتأزّمات، وآخرها التحقيق في تفجير المرفأ. أمّا السبب الآخر فهو أمارات عودة الانقسام الإسلامي – المسيحي بشأن التحقيقات في انفجار المرفأ، بل وقبل ذلك. فحتّى في أيّام النزاع الداخلي ما كان التوتّر يحدث بين الجهات الدينية الكبرى، بل بين السياسيين، فتتدخّل الجهات الدينية لتلطيف الأجواء وعبور التقاطعات السياسية، وبناء الجسور بتقديم الوطني على الطائفي. اليوم يحاول سياسيون وشعبويّون مسيحيّون إثارة النزاعات الطائفية والانقسامات من جديد، ولسببين: انتخابيّ، وعوني/باسيلي. فالقوّات اللبنانية ومَن يسمّون أنفسهم بالمدنيين، يعتقدون أنّهم بالمزايدة في مسألة الحقوق (المسيحية) يكسبون أصواتاً انتخابية لإظهارهم التحزّب لذلك. وهذا جديد على “الشبّان المدنيين” استجدّ بعد تفجير المرفأ. أمّا القوّاتيون فهم معتادون على هذا التكتيك حتى صار طبيعةً ثانيةً لهم. فهم اقترحوا مشروع القانون الأرثوذكسي (2013) لفصل المسيحيّين عن المسلمين، فيصوِّت المسيحي للمسيحي، والمسلم للمسلم. ولمّا تعذّر تحقيق ذلك دخلوا في تقاسم ومحاصصة مع عون، وتوصّلوا معاً إلى قانون الانتخاب (2018)، وهو مقذعٌ مثل الاقتراح الأوّل، ولو وافق عليه سعد الحريري. وعندما اختلفوا مع باسيل على التحاصص، قاطعوا العمليّات السياسية كلّها بحجّة فساد المنظومة كلّها، ولم يقبلوا حتى ترشيح أحدٍ سنّيٍّ لرئاسة الحكومة “من خارج المنظومة”! ثمّ دخلوا بقوّةٍ على جريمة المرفأ متّهمين، تلميحاً، مسلمين بقتل مسيحيين في المرفأ استناداً إلى أنظار المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار. وقد جرّوا معهم مَن يُسمَّون بالشبّان المدنيين، فصار التنافس في الاتّهام بين ثلاثة فرقاء مسيحيّين: الجعجعيّين، والباسيليّين (أوّل مَن تبنّى مقاربة البيطار)، والشبّان الثوريّين الأشاوس. ما عاد المرفأ مرفأ مدينة بيروت، ولا عاد المقتولون الضحايا مسيحيين ومسلمين، ولا عاد الثلث الخرِب من بيروت جزءاً من المدينة المنكوبة منذ عام 1982، بل وقبل ذلك. بل صار المسلمون هم الذين فجّروا ذلك المرفأ المجهول الزمان والمكان وفي وجه المسيحيّين.

نعم، لقد أثّر ذلك كلّه من خلال الحملات السياسية، ومن خلال الإعلام، بحيث نسي الجميع أنّ الجريمة ضدّ بيروت والمواطنين اللبنانيين جميعاً، واُعتُبر التدخّل الدستوري والقانوني والاعتراضي على مسار التحقيق المتحوّر، بغرض الدفاع عن النفس، والحرص الفعليّ على تبيان الحقيقة، إجراماً طائفيّاً من جانب المسلمين. فبدت علائم الانقسام الطائفي الذي رجونا غيابه إلى الأبد. لقد كان كثيرون يرون منذ البداية بعد التفجير الهائل أنّ هذا المسار، الذي ارتآه “الجرصة”، نسبة إلى جريصاتي، للقضاء، فيه أخطار على الوحدة الوطنية، وعلى السلم الأهلي، وعلى العلاقات المسيحية – الإسلامية بالداخل اللبناني. ونحن نذكر جميعاً أنّ الآذاريّين منذ عام 2005 ارتأوا الذهاب بجريمة اغتيال الحريري إلى التحقيق الدولي بسبب ضعف القضاء اللبناني، وبسبب مخاوف الانقسام الداخلي السنّيّ – الشيعيّ. والمشكلة هذه المرّة في التعمّد. فاتّهامات البيطار تتجاوز الدستور، وترتكب أخطاء قانونية فادحة. لكنّ القضاء المسيَّس صار مضرّاً جدّاً عندما أصبح إضافةً إلى ذلك أداةً بأيدي السياسيّين الساعين إلى الفوز في الانتخابات، أو الذين ما عادوا يخسرون شيئاً بإثارة الفتن.

 

لماذا فكّرتُ في “القمّة الروحيّة”؟

لسببين: مسار البطريركية الوطني فوق الطائفي طوال الأزمة، ولأنّ البطريركية أو دار الإفتاء كانتا هما اللتين تتدخّلان في الأزمات ذات الطابع الطائفي أو الوطني العامّ.

كان البطريرك الراعي، طوال أكثر من عام، الجهة الأكثر إظهاراً للحرص على وحدة لبنان ومجتمعه، وعلى السلم الأهلي، وعلى تحرير الشرعية من الارتهانات، وعلى الحياد لحماية البلاد من الهزّات والاجتياحات، وعلى المؤتمر الدولي من أجل لبنان. وفي الأسابيع الأخيرة ما عاد يقول شيئاً غير ضرورة تشكيل حكومة. وقد لاحظ البعض تفاوتات في “خطاب” البطريرك أو تقديم لهذا المطلب أو ذاك. لكنّني ما وجدتُ شيئاً من ذلك، وأنا شديد المتابعة لخطابات البطريرك وبياناته وإعلاناته. وحتى عندما أرادوا “شربكته” في فتنة المرفأ، دعا إلى إحقاق العدالة، ودعا في الوقت نفسه إلى عدم الاستنساب.

وفي الواقع فإنّ دار الفتوى، التي سمَّى بيانها الصادر عن المجلس الشرعي جريمة المرفأ: جريمة العصر(!)، ما طالبت إلاّ بأمرين: عدم تجاوز الدستور ووثيقة الوفاق الوطني، وعدم الاستنساب، وهو الأمر الذي قام به البيطار، ولا يزال يقوم به.

إنّ وسائل إعلام القوّات (حتى أكثر من العونيين) لا تزال مصرّةً على استصغار أهل السُنّة وتحوّلهم من أمّةٍ إلى “طائفة”، وتسمّي المفتي “فم المذهّب”. وبالطبع نحن لسنا بحاجةٍ لا إلى استحسانهم ولا إلى شهادتهم. هم معروفون من الأوّل إلى الآخر، وقد جرى احتضانهم ورعايتهم لكسبهم للطائف وللصفّ الوطني، لكنّ الطبيعة لا يمكن تغييرها ولا إصلاحها.

ولنعُد إلى الموضوع الأصليّ، إلى القمّة الروحية، ومن ورائها المنصّة الوطنية الممكنة. في القمّة الروحية يمكن أن يجري التأكيد على وثيقة الوفاق الوطني والدستور اللذين تتصدّع الجبهات من حولهما. فهناك مَن تخلّى عنهما علناً، وهناك مَن تخلّى عنهما ضمناً. وهذه المرحلة الانتقالية هي من الخطورة مثل مراحل الـ1982، والـ1988 والـ2005. وقد نجحنا في عام 2005 في مواجهة الأخطار متّحدين ومستنيرين، أفلا يمكن القيام بشيءٍ من ذلك أو باتّجاه ذلك الآن؟

والأمر الآخر: وقف الانهيار، ووضع الحكومة أمام مسؤوليّاتها، أو تكون آمال البطريرك وآمالنا جميعاً قد ذهبت سُدى.

والأمر الثالث: ضرورة إحقاق العدالة في جريمة المرفأ بدون انتقاءٍ واستنسابٍ واستهدافٍ، والأهمّ: دون مخالفة الدستور والقوانين، والأرجح بتحقيق دولي.

والأمر الرابع: ضرورات العودة إلى المسار الوطني الباقي لجهة سلطة الدولة وحدها على أرضها، ولجهة التمسّك بشرعيّات لبنان الوطنية الدستورية، العربية، والدولية.

لبنان على مفترق طرق. وفي القمّة الروحية تجديد إيمانٍ بلبنان الوطنيّ السيّد الحرّ المستقلّ، من جانب القادة الروحيّين، حيث تخاذل السياسيون أو تآمروا أو تطيّفوا.

 

Exit mobile version