“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
لم يسبق أن نال موضوع نيترات الأمونيوم هذا القدر من الإهتمام الداخلي إلاّ بعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020، مذاك، تحوّلت “النيترات” إلى مادة جذب إعلامي تستقطب الإهتمام الشعبي وكفيلة أحياناً بتحريك الشارع، وقد بلغت أن ينسحب استخدامها على تفجير وإفساد العلاقات السياسية والقضائية والأمنية!
مخابرات الجيش التي استلمت التحقيقات في “شحنة” النيترات المضبوطة عند مفرق إيعات بتاريخ 17 من الجاري بناءً على استنابةٍ صادرة عن مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالإنابة فادي عقيقي، موضوعة تحت الإمتحان اليوم في ضوء الأسئلة المشروعة التي تطرحها الأوساط السياسية، وفي ظلّ الأنباء التي تسري حول توظيفها في إطار “الفتك بالمقاومة” ووسط توافر مؤشرات وقرائن تدلّ على “مزاحمة أمنية” مرشّح لأن يبلغها الملف.
طالما أن السياسة “تعمشقت” على ظهر “نيترات البقاع” إذاً ، تُصبح الضغوطات أكبر على الجيش. الموضوع لا يتصل بقطاع الإستخبارات إنما بقيادة الجيش وصورتها على وجه الخصوص، الموضوعة منذ مدّة تحت “مجهر” الإتهام السياسي الصريح وفي ظل الحملات التي تُشنّ عليها من أطراف سياسيين… بهذا المعنى، لن يكون التعامل مع هذا الملف “الدقيق” عادياً بل يظهر أن ثمة “إحاطة” واضحة به، مطلوبة طبعاً بهامش خطأ صفر!
عملياً، أحالت مديرية المخابرات خلاصة التحقيقات إلى القضاء الذي أصدر إشارته بتوقيف 4 أشخاص (من أصل 15 تم ايقافهم) بينهم اللبنانيين مارون الصقر و سعد الله الصلح و سوريين اثنين وفق بيان رسمي صادر عن مديرية التوجيه. وبحسب معلومات خاصة لـ”ليبانون ديبايت”، من المرجّح أن يُكلّف القاضي عقيقي مديرية المخابرات بمتابعة التحقيق في الشقّ المتعلق بمصدر “النيترات” ووجهة استعمالها ومن يقف خلف عملية الإستيراد من الخارج.
لا يُخفي مصدر معنيّ بالتحقيقات، الصعوبات التي واجهها محققو الجيش سيّما مع الموقوف مارون الصقر. الرجل الذي يعمل في كار “تجارة الأسمدة الزراعية” منذ زمن بعيد، ومع ثبوت الأدلة واعترافات الموقوفين والشهود، لا زال يتحايل في إنكاره حيال مصدر شحنة “النيترات” ووجهتها والغاية منها وهل كان يعلم بمدى خطورتها بالنسبة إلى تركيز الأزوت فيها أم لا.
لكن هل يعني ذلك أن النيترات تمّ استيرادها ووُضّبت لقاء “أهداف أمنية معنية”؟ تقلّل مصادر مطلعة على التحقيقات من هذا الإحتمال، عطفاً على الإفادة التي تقدّم بها الموقوف أحمد الزين، الذي سبق له وأن أشار إلى وجود “هدف جرمي” من وراء الإتيان بالنيترات إلى البقاع، يمكن تلخيصه في محاولة لتلفيق تهمة إلى “حزب الله”، والإظهار بأن النيترات تعود ملكيتها إليه، وهو ما دفع بالحزب إلى تشغيل محرّكاته السياسية على أقصى طاقة ممكنة في محاولة منه لفهم ما يجري في ظل ارتيابه المشروع من قضية المرفأ وما يظهر من محاولات تسييس ظاهرة.
هذه الرواية والتي ضمّ إليها الزين لاحقاً إفادة حول ضلوع السفارة الأميركية بترتيب خطّة تهدف للإيقاع بالحزب بقاعًا، تبيّن لدى قاضي التحقيق الذي حضر إستثنائياً للإستماع إلى الزين، عدم واقعيتها، بدليل أن الموقوف وحين سُئِل من جانب القاضي العسكري حول الأدلة التي بحوزته والتي تدعم ما يقول، أجاب بأنها “استنتاجات” تمكّن من تجميعها ربطاً مع أقاويل كانت تتردّد إليه من قبل مارون الصقر وأحاديثهما الدائمة حول علاقة شقيقه ابراهيم (متوارٍ عن الانظار) بالسفيرة الأميركية (!)، إلى جانب ما تمّ تداوله من قبل وسائل إعلام منذ مدة حول حصول لقاء بين إبراهيم الصقر والسفيرة، وصولاً إلى طبيعة المنطقة التي حُدّدت لوضع “النيترات” فيها! هذا الكلام وإن لم يُلزم المحقق العسكري بشيء لغياب القرينة ولوجود رغبة واضحة من جانب الزين للإقتصاص من شريكه السابق مارون نتيجة خلافات، أبقاه المحقق العسكري في متناول التحقيقات كعنصرٍ قائم، سيّما مع تثبّت الفحوصات المخبرية من أن نسبة تركيز الآزوت في الحمولة بلغت 34.7، أي مشابهة لتلك التي انفجرت في مرفأ بيروت وهي نسبة يحظّر استيرادها، تخزينها واستخدامها في لبنان، ولو أن لا قرائن علمية إلى حينه تدلّ أو تثبت وجود ترابط بين شحنة المرفأ والبقاع.
عملياً، نحن في اتجاه يُفترض معه أن يتوسّع التحقيق، وقد يجري ضمّ الملف إلى قضية انفجار المرفأ وإيداعه لدى المحقق العدلي، لكن ذلك مرهون أساساً بالفحوصات المخبرية الجارية حالياً لمعرفة مدى تطابق التركيبة المعثور عليها في البقاع مع تلك التي انفجرت في المرفأ، وذلك بالإعتماد على البيانات الموجودة للكمية المستوردة عام 2013 مضاف إليها “البالات” التي عُثر عليها غير منفجرة منذ مدة في المرفأ.
وبحسب مصدر معني، فإن المقارنة المخبرية ستأخذ في الإعتبار، التدقيق في احتمال التجانس والتركيبة و اللون و المواد المستخدمة وتاريخ الإنتاج وبلد المنشأ، وهو ما قد يعطي تفسيراً واضحاً حول هوية الشحنة. لكن وقبل الوصول إلى تلك الإستنتاجات المطلوبة طبعاً، لا بدّ من الأخذ في الإعتبار، ما يجري تناقله حول وضعية تجارة الصقر بالنيترات، وما وُيحكى عن وجود عدة مصادر يتم الإستيراد منها من بينها دولة إقليمية قريبة. فهل أن “شحنة إيعات” تم استيرادها من تلك الدولة وبعلمٍ مسبق من أصحابها حول نسبة الأزوت فيها لصالح استخدامها في أعمال المقالع؟ وبما أن مسألة استيرادها يجزم المتابعون أنها تمّت بحراً، فعن طريق أي مرفأ أدخلت، وكيف تمّ ذلك، وهل من تواطؤ حصل لإدخالها نظراً لخطورتها؟ وما مدى صحّة العلاقة بين ارتفاع تركيز الأزوت ونقاوة الشحنة، وارتفاع ثمنها في السوق المحلي مقارنةً بالفعالية الناتجة عنها والتي تأتي على استخدام كميات قليلة مقابل الحصول على فعالية أكبر؟
أسئلة شائكة يرفض الصقر إلى حينه الإجابة عنها، فيما قرّر القضاء الذهاب بالملف إلى النهاية، وهنا تبدو الخشية من النيترات واضحة، والبتّ في هذه القضية محكوم بخلاصة الإختيارات الجارية على الشحنة، وإلى أن يحين الموعد، لا بدّ للهدوء أن يسود على ضفة الأجهزة الأمنية “المتنافسة”، والتطور الذي حدث حين نُقل الملف من شعبة المعلومات إلى استخبارات الجيش، ولّدَ تدخّلات استدرجت الإعلام إليها، ممّا شكّل تأثيراً سلبياً على مجريات الملف ورتّب على المعنيين به تصفية حساباتهم في العلن، ومكّن الضالعين فيه من ممارسة “شغب إعلامي” لتضييع الملف، وكله انسحب بتأثيراته السلبية تباعاً.