هل التحقيق مسّيس؟
ناصر قنديل-البناء
– ثمة فريق سياسي وإعلامي لا يريد أن يناقش كلمة واحدة في ملف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، مردّداً جملة واحدة دعوا المحقق يقوم بعمله، ومن لا يخاف من أن يكشف التحقيق تورّطه لماذا لا يلبّي طلب القاضي، وفي غالب الأحيان مثل هذا المنطق يخفي عجز أصحابه عن مواجهة الحقائق، لأنّ جملة دعوا المحقق يكمل عمله تستدعي أن يكون عمله صحيحاً متجهاً نحو الحقيقة وليس الاستثمار بها لخدمة روزنامة سياسية، وفي بلد حاله كحال لبنان، الأغبياء وحدهم يطلبون الإثبات على التسييس لأن المطلوب هو العكس، أي إثبات عدم التسييس، والغريب أن دعاة التفويض المفتوح بلا شروط للمحقق العدلي هم أنفسهم الذين يقولون في القضاء وسائر مؤسسات النظام ما لم يقله مالك في الخمرة، فهل يجب أن نأخذ ثقتهم المفرطة بالقاضي علامة على معرفتهم الوثيقة بروزنامته ومطابقتها لروزنامتهم، ولمرجعيته ومطابقتها لمرجعيتهم، وتسييسه ومطابقته لتسييسهم، وإلا من أين يأتيهم هذا الشعور بالإطمئنان وتأتيهم هذه الثقة؟
– المثول أمام القاضي كدليل على البراءة، شعار جميل، لكن هل يستقيم مع قراءة نتائج مثول الضباط الأربعة أمام القضاة الدوليين، وإن كانت النتيجة النهائية جاءت ببراءتهم، فهل هذا لأن إثبات البراءة كان متعذراً وبعد هذه السنوات ظهرت معطيات جديدة أدت لاكتشافها، أم لأن توقيفهم أدى المهمة بفتح باب السيطرة على الأجهزة، وأتم الانقلاب الذي تمّ تنفيذه على مساحة البلد بدماء الاغتيال، وتم انتهاك كراماتهم وأسيء لعائلاتهم، ودمّر الكثير من بنيان مستقبلهم، وأسيء لسمعتهم وسمعة أولادهم وأقاربهم، ويوم اتهمهم المحقق الدولي فعلوا بموجب نصيحة المثول أمام القاضي دليل على الثقة بالبراءة فحصدوا ما حصدوه، ولم يكلف أحد نفسه بعد عناء الاعتذار منهم على ما ضاع من أعمارهم وما لحق بهم، فهل من أحمق شهد ما جرى معهم ويعيد الكرة، بخاصة أن الاستدعاءات لم تأت تحت عنوان الاستماع بل الاتهام، قبل الاستماع، وهذه بدعة جديدة في مثل هذه القضايا الكبيرة والخطيرة والحساسة، صادف أن مرت معي قبل خمس عشرة سنة عندما أعلنني ديتليف ميليس ورئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة مشتبهاً فيه في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري من دون استماع، ولم يلبث أن سقط القناع.
– لنعد إلى حديث التسييس، ولنبدأ بالمشهد الذي جاء الانفجار في قلبه، حيث البلد يقع تحت ضغوط شديدة واضحة عنوانها الانهيار الاقتصادي، ترافقه محاولة لحشد الناس لتحميل المقاومة مسؤولية الانهيار، وفجأة لم يضغط الذين ضغطوا للذهاب إلى تحقيق دولي في قضية اغتيال الرئيس الحريري لفعل الأمثل في هذه القضية، وفجأة سقط كل التشكيك بأهلية القضاء اللبناني وعدم تبعيته للطبقة السياسية، وكما في قضية اغتيال الرئيس الحريري ظهرت مرجعية حملت اسم أولياء الدم، وظهر الاتهام السياسي للمقاومة، وحملة إعلامية مبرمجة تتحدث عن رواية لا يقبلها عقل، قوامها أن المقاومة خزنت النيترات لنقلها إلى سورية لحساب الدولة السورية، ولا حاجة لذكر الاعتبارات التي تجعل هذا الكلام أسخف من سخيف، وفجأة وقبل أن يظهر خير القاضي من شره، مع المحقق الأول ثم المحقق الثاني، يمحضه ثلاثي هيئات تحمل اسم أهل الضحايا ونقيب المحامين وجمعيات من المجتمع المدني، الثقة المطلقة، فهل يعرفونه أكثر من الطبقة السياسية التي يتهمونها بأنها لم تعين قاضياً إلا ضمن منطق المحسوبيات، وكما في قضية اغتيال الرئيس الحريري ظهر فريق متهم بالاغتيال، لكنه لا يملك جدول أعمال يفترض أن يكون لدى القاتل، بينما ظهر الفريق الذي يمثل ولاية الدم وتحالفاته جاهزاً للتصرف ويملك جدول أعمال جاهزاً في اليوم التالي للعملية!
– لعب فريق الرعاية للتحقيق لعبته الذكية على ثلاثة محاور، الأولى كانت بأخذ المتغيرات الدولية التي لم تعد تسمح بتكرار تجربة التحقيق الدولي والمحكمة الدولية بالطريقة التي تمت فيها من قبل مع وجود شراكة حاضرة لروسيا والصين في كل تفاصيل المسرح الدولي، وتظهير عدم سلوك هذا الطريق كتلبية للمحاذير التي تثير حفيظة حزب الله في ضوء التجربة السابقة، والثانية تنظيم آلة ضخ إعلامية تتكامل مع مسار التحقيق، لتوجيه الرأي العام نحو اتهام المقاومة، بالإيحاء أو بالإجهار وفقاً للمقتضى، أما المحور الثالث فتمثل بالاستثمار على مناخ شعبي غاضب من السلطة بكل عناوينها ولحجم الكارثة الإنسانية التي نتجت من الانفجار، لتحويل نظرية تدحرج الرؤوس الكبيرة إلى عنوان للحقيقة والعدالة، بصورة يعرف كل عاقل أنها ليست إلا تضييعاً للحقيقة والعدالة، لأن القاضي النزيه الباحث عن الحقيقة والعدالة لا يقيم حساباً لتلبية غضب أهل الضحايا، ولا يستطيع سلفاً تقدير حجم الرؤوس التي سيطالها التحقيق والاتهام.
– الأسئلة التي لا أجوبة عليها في سلوك التحقيق كثيرة، أولها أين ضاعت المعايير الموحدة التي تشكل أساس العمل القضائي، عندما تم انتقاء خمسة من لائحة 14 اسماً، هم رؤساء الحكومات ووزراء الداخلية والعدل والمالية والأشغال الذين تعاقبوا على المسؤولية طيلة فترة وجود النيترات في حرم المرفأ، ثم أين هو التحقيق في مصدر النيترات ومن جلبها ولماذا بقيت هذه المدة، وماذا عن شهود الزور الذين أطلوا على الإعلام بصورة مثيرة للسخرية تذكرنا بحكاية زهير الصديق ورواياته الدونكيشوتية، ولماذا إهمال قضية نيترات البقاع، ونقاط التقاطع بينها وبين نيترات المرفأ كثيرة، ثم لماذا الإصرار من قاض درس القانون على انتهاك الدستور والدخول في نزاع صلاحيات مع المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء بدلاً من الإسراع بإقرار الاتهامي ومطالبة المجلس الأعلى بالقيام بواجبه حيث يكون الاتهام لرئيس أو وزير، والإصرار على تداول كذبة اسمها أن المجلس الأعلى مسيس، بينما يرأسه عند انعقاده رئيس مجلس القضاء الأعلى بمثل ما سيرأس المجلس العدلي الذي سيحاكم المتهمين من غير الرؤساء والوزراء، وسيكون مع رئيس مجلس القضاء أكبر سبعة قضاة رتبة بين قضاة لبنان، سيكون أكثر من نصفهم بحكم النص القانوني لقوم المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء ومجلس القضاء الأعلى والمجلس العدلي، أعضاء في المجالس الثلاثة، فلم يكونون هنا مشهوداً لهم بالنزاهة، وهناك يصيرون دمى سياسية مشبوهة؟
– عندما يكون أبسط المنطق يقول إن من يحتاج النيترات واستعمالها هي الجماعات المسلحة في سورية وليس الدولة السورية، وإن المشتبه فيه هو نصير هذه الجماعات وحلفائها، وليس نصير الدولة وحليفها، وعندما يقول المنطق أن يستمع المحقق لكل من يحتاجه لإنارة التحقيق قبل توجيه الاتهامات، ويصر على توجيه الاتهام قبل الاستماع، وعندما يقول المنطق إنه إذا كان رئيس حكومة مسؤولاً فكل رؤساء الحكومات مسؤولون، وإذا كان وزير حقيبة مسؤولاً، فكل من تعاقب على هذه الحقيبة مسؤولون، وعندما يقول المنطق إن القاضي يحكم باسم القانون وليس وفقاً للتحليل السياسي، فهو محكوم بحدود يرسمها الدستور، ويصر على ضرب عرض الحائط به بداعي أنه لا يثق بالمجلس الأعلى كأنه الذات الإلهية، أو كأن القانون عنده إله يصنعه من التمر ويأكله إذا جاع، على طريقة أهل الجاهلية، وعندما تقل لي من تصادق أقول لك من أنت.
– سئل قائد الثورة الفيتنامية مرة عن كيفية اعتماده لتقدير الموقف في الظروف الملتبسة، فأجاب أسأل نفسي عن الذي يسر العدو ويغضبه، فأعمل كي لا أتشارك معه المشاعر، وعندما أكتشف أن ما أفرحني أفرح عدوي أثق أنني ارتكبت خطأ وأعيد النظر.