اندريه قصاص -لبنان24
منذ اليوم الأول لتعيين القاضي فادي البيطار محقّقًا عدليًا خلفًا للقاضي فادي صوان أدركنا أن المتضررين من الوصول إلى الحقيقة في ملف انفجار المرفأ، وهم كثر، لن يدعوه يكمّل مهمته حتى النهاية، ولن يسهّلوا له مهمته، بل سيضعون أمامه ما أمكنهم من عراقيل لإفشاله وكفّ يده. وهذا ما حصل. وكان توقعّنا في محله.
أمّا لماذا كُفّت يد القاضي البيطار؟
فلأنه بكل بساطة يتمتّع بكل الصفات المفروض أن يتمتّع بها كل قاضٍ منسجم مع نفسه ومع قسمه ومع مبادئه.
إنه نزيه. شريف. يحكم بالعدل. يحكّم ضميره. يدرس ملفاته بدقة وعناية. يراجع التقارير من دون أن يغفل أي تفصيل. لا يحابي الوجوه. لا يردّ على أي إتصال له علاقة بالملف الذي يكون بين يديه. لا يرضخ لا للتهديدات ولا للإغراءات.
ولأنه يتمتع بكل هذه الصفات، وهذا ما يقوله عنه الأقربون والأبعدون، كُفّت يده. يُقال إنه دقّ بالمقدسات والمحرّمات. ويُقال ايضًا إنه كان عليه أن يلتزم حدوده والاّ يتجاوز صلاحياته. ما يُتهمّ به القاضي البيطار هو أنه “حطّ راسو براس السياسيين”، وطرق أبوابًا كان عليه ألا يقرب منها.
فقبل أن تُكّف يده أُسمع كلامًا فيه نوع من التهديد المباشر، كمثل “الله لا يخلينا إذا منخيلك مطرح ما انت”. أو كمثل “مش عارف بمين عم بتدّق”.
خطأ البيطار كخطأ سلفه. لقد بدآ من المكان، الذي يعتبرانه صحيحًا، ولكنه في نظر الآخرين هو المكان الغلط. كان عليهما أن يطالا فقط المسؤولين الصغار، الذين لا حول لهم ولا قوة. وهم في النهاية حتى ولو كانت عليهم مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة فهم مؤتمرون ولا يقطعون شعرة قبل مراجعة أو موافقة من هم أعلى منهم رتبة. وهؤلاء مؤتمرون بدورهم أيضًا، ولا يقطعون شعرة من دون موافقة أو مباركة مرجعياتهم السياسية، لأنهم بفضل هذه المرجعيات قد تمّ تعيينهم في مراكزهم.
الصدمة الثانية جاءت اشد وقعًا من الصدمة الأولى. والسبب أنه بعد كفّ يد القاضي صوان كان لا يزال هناك أمل في أن من سيأتي من بعده سيكمّل المهمة التي كان قد بدأ بها. أمّا أن تكون للتدخلات السياسية هذه الفاعلية فهذا ما لم يأخذه القاضي البيطار بالحسبان، وأعتقد ان في إمكانه إختراق الأسوار التي لم يسبق لأحد أن إخترقها. فالذي سيأتي من بعده، هذا في حال تمّ التوصل إلى توافق على بديل، فسيكون طيّعًا كالعجينة في يد السياسيين، وأن الحقيقة التي ينتظرها الجميع ستُيمّع، و”ستطلع” برأس بعض الموظفين الصغار، ويقفل الملف عند هذا الحدّ.
المفارقة أن كفّ يد البيطار جاء متزامنًا مع عودة لبنان إلى اهتمامات المجتمع الدولي من خلال بيان لمجلس الامن تضمّن في ما تضمّن تشديدًا على تحقيق شفاف ومستقل لجلاء حقيقة انفجار المرفأ.
وفيما يطالب البعض، ومن بينهم رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، بتحصين موقف القاضي البيطار، لأنه لا يجوز تغيير قاض مرة أخرى، فإنه من المتوقع أن يسلك هذا الملف مسلكًا مغايرًا، مع ضمان تفعيل عمل لجنة محاكمة الرؤساء والوزراء، بحيث لا تعود مجرد لجنة صورية لا فاعلية ولا حضور لها. وهذا التفعيل يأتي في سياق خطة متكاملة لحكومة “معًا للإنقاذ” من أجل مكافحة الفساد ووضع حدّ لكل من يسيىء إستخدام حدّ السلطة.
الخلاصة في كل هذا أن التعويل على التغيير الحقيقي يجب أن يكون في الإنتخابات المقبلة. وبعد هذا التاريخ يكون لكل حادث حديث.