لعلها جولة “شرٍّ عادي”، هذه التي يشهدها اللبنانيون في تطورات ملف انفجار مرفأ بيروت… بقدر ما هي شَرٌّ صافٍ. فالمحاولات، بالألاعيب القانونية والقضائية، لكفّ يد أو “اقتلاع” المحقق العدلي في الجريمة، القاضي طارق البيطار، تختزن ما يكفي من تغوّل فعلي ورمزي لتجعل الجماعة الحاكمة في لبنان من سوية أدولف أيخمان، المسؤول النازي المعروف (من خلال محاكمته، لا مذكّراته) بأنه كان أحد المنظّمين لسَوق ملايين البشر إلى معسكرات الاعتقال النازية حيث وقعت فظاعات تاريخية في غِنَى عن التعريف.
كان أيخمان، الذي بَنَت حوله حنّة أرندت نظريتها عن “عادية الشر”، في صدد تنفيذ الرؤية النازية المرتكزة إلى احتقار الأرواح وإزهاقها برمشة عين، من أجل “الحل الأخير”، الحلم المريض بنقاء عِرقي يحقق خرافة التفوق.
وبالحِيَل القانونية والتسلل بين الثغرات والمُهَل القضائية، يعبّر أهل المنظومة اللبنانية، من نواب ووزراء ورؤساء ورجال دين وقادة أحزاب وطوائف، عن احتقارهم لعموم حيوات اللبنانيين. وهو احتقار، إذ يتراكم منذ عقود، بعشرات الجرائم والانفجارات والاغتيالات التي لم يُعرَف/لم يُعلَن مرتكبوها والمخططون لها، ولم يُحاسَب فيها أحد، يجعل التصفيات هنا بقسوة وقبح مثيلتها العِرقية. فهي تدعيم تفوّق السيستم وشخوصه، على اللبنانيين المحكومين بهذا السيستم. المؤسسة السياسية اللبنانية، مع المهيمنين عليها، تنفذ رؤيتها عن نقائها من كل ما لا يمت إلى دينامياتها الفاسدة والمجرمة بِصِلة. والناس في لبنان – حيواتهم، موتهم، خسائرهم، نكباتهم، عطشهم المزمن لعدالة ومحاسبة – “عِرق” دسّاس لا بدّ من إفنائه. بالقانون تفعل ذلك، ببيروقراطية النظام نفسها التي طبّقها أيخمان بدقّة وتفانٍ مُدهشَين.
كتبت أرندت عن أيخمان إنها لم تجده منحرفاً ولا ساديّاً، بل “عادياً بشكل مرعب”، تصرف بلا أي حافز إلا طموحه في الارتقاء ضمن البيروقراطية النازية. والأيخمانات اللبنانيون لا طموح لهم سوى حماية مواقعهم في المنظومة والترقي فيها إلى أعلى سلالم الاستثناء، الاستثناء من الحق والعدل، مهما كلّف الأمر من بشر ومَظالم في مَحارق القانون التي، إن لم تكفِ، نُفّذت التهديدات بما بعد بعد القانون.
هل يمكن للمرء أن يقترف الشر، من دون أن يكون شريراً؟.. هو السؤال الذي انكبّت أرندت على الإجابة عليه من خلال محاكمة أيخمان الذي، بحسبها، لم يكن وحشاً بلا أخلاق، بل الأدقّ أنه كان منفصلاً عن “حقيقة أفعاله الشريرة”، “لم يدرك ما يفعله” بسبب “عدم قدرته على التفكير من موقع مغاير لموقعه”. اقترف أفعالاً شريرة بلا نوايا شريرة، وهو الأمر المرتبط بـ”غياب تفكيره” الفردي أو الذاتي.
لكن التنظير البارع لأرندت، والذي اكتسب أهمية فكرية بالغة وتأثيراً عميقاً منذ انتشاره في ستينيات القرن الماضي، لم ينجُ أيضاً من تشريح حَدّ، واجهته في زمنها، وما زال مستمراً بعد رحيلها. ففي أيامها، خاطبتها صديقتها الروائية، ماري ماكارثي، قائلة: “يبدو لي أنك تقولين إن ايخمان يفتقر إلى سِمة إنسانية أصيلة: القدرة على التفكير، وامتلاك الوعي-الضمير. لكن، ألا يصبح هكذا وحشاً بكل بساطة؟”. ومن عيّنات مُجادلي أرندت المعاصرين، المؤرّخة ديبورا ليبستادت، التي واجهت دعوى قضائية بتهمة إنكار الهولوكوست (بُتّ فيها العام 2000)، وكتبت لاحقاً إن “مذكرات إيخمان التي أفرجت عنها إسرائيل وأُدرجت في جلسات محاكمتي، تُظهر كم كانت أرندت مخطئة بشأن أيخمان، فهي (المذكرات) تنضح بتعابير الإيديولوجيا النازية… أيخمان كان مقتنعاً بفكرة النقاء العِرقي”.
فأي “أيخمان” يقتل ضحايا مرفأ بيروت للمرة الثانية؟ ذاك الذي يحفظ المنظومة عن ظهر قلب، دهاليزها وإجراءاتها “العادية”، ويستخدمها ببراعة البيروقراطي المجتهد لتحقيق طموحه الوظيفي في مسارها؟ أم أنه المؤمن بهذا الشرّ، شرّ تعليق التحقيق تمهيداً لنسفه، باعتباره ضرورة وقضية محقّة، الشرير الأصيل، المتماهي مع المنظومة، معتنق رطاناتها الظاهرة والمستترة، والمدافع عنها فيما يدافع عن بقائه وصفاء سلطته له وحده مع شركائه المخلصين
لعل الثلّة المجرمة المنقضّة اليوم على القاضي بيطار، والتحقيقات في انفجار المرفأ، تطرح احتمالاً ثالثاً. فهم مقترفو “الشر العادي” كتُروس قانونية بالغة الكفاءة، في الماكينة السياسية المشتغلة بوقود الفساد والجرائم، زيتُها الارتهان والمحاباة والأكاذيب، وطاقتها الهويات والطوائف،.. وإن اقتضى الأمر تحوّلت قاذفة صواريخ. وهم أيضاً وحوش أصيلون، يعون ما يفعلون، ومستعدون – إن لم تفعل الشعوذات القانونية فعلها – لارتكابات أبشع وأعنف من دون مخافة أو توجس، من دون “تفكير” أو أي “وعي” كان.. إلا بالإيديولوجيا المناسبة لكل معركة في حينها، كـ”مقاومة” مشروعة من أجل حفظ النوع – نوعهم – في مواجهة اعتداء مباشر. هم أشرار فوق العادة.