بشارة مرهج*-البناء
إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية إلى أستراليا ليس حدثاً عابراً يمكن تجاوزه على مستوى البلدين كما على المستوى العالمي، فإلغاء هذه الصفقة مراعاة للمصالح الأميركية وجّه إلى فرنسا صفعة قاسية ستعيش وتتوالد في ذاكرتها الجمعية إلى مدى طويل. والصدمة المروعة التي لا تزال تعيشها باريس اليوم تعدّت آثارها الحدود الفرنسية لتشمل الاتحاد الأوروبي ومعه العالم كله الذي وقف مشدوهاً أمام العملية الغادرة التي طعنت في الصميم ما تبقى من المبادئ الأخلاقية التي تظلّل العلاقات بين الدول، وأثارت الرعب لدى العديد من الشركات الكبرى في العالم، من اليابان إلى كندا وما بينهما، كونها تؤكد في «العهد الأميركي الديمقراطي» الاتجاه الحاسم للإطاحة بمبدأ العقود والاتفاقات، والاستهانة بكلّ القواعد والأسس التي تتعلق بالتجارة الدولية وفقاً للتقويم الغربي نفسه. وهذا الاتجاه الذي يعكس روح الاحتكار والاستئثار واحتقار الآخر لن يسهم بالتأكيد في تعزيز الأمن والاستقرار في العالم وإنما سيرفع من منسوب الفوضى والتوتر، وسيضاعف من الشكوك القائمة في العلاقات الدولية، ويجعل الجميع في حالة ترقب وخوف من المستقبل وتداعياته فيما لو استمرّ الاندفاع الأميركي على زخمه مؤيداً من دول لها شأنها في العالم كبريطانيا وأستراليا.
وليس غريباً على الإطلاق أن تتعمّق هذه الحالة وتتمدّد بينما الاقتصاد العالمي يعاني من التراجع والركود، وبينما السياسة الأميركية تمعن في توسيع دائرة العقوبات في العالم والتفلت من المفاهيم الحقوقية والإطناب في الحديث عنها في الوقت الذي تعفي فيه الكيان الصهيوني الغاصب من كلّ ما يترتب عليه من عقوبات يستحقها لخروجه الفاجر عن كل المواثيق والقوانين الدولية وتنكره لحقوق الإنسان.
وفيما تنتظر فرنسا التعويض على الطعنة التي تلقتها في الظهر على يد الحليف الأميركي والحكومتين الأسترالية والبريطانية تضع الدول المتحالفة مع أميركا يدها على قلبها متخوّفة على مستقبلها ومصيرها بعد انهيار صفقة الغواصات، بخاصة أنها تأتي مباشرة بعد تجربة أفغانستان المريرة التي أبرزت على الشاشات العالمية والمحلية كيف تتخلى أميركا عن «قيمها الديمقراطية» بنفس السرعة التي تتخلى فيها عن أصدقائها وحلفائها وجماعاتها من دون إنذار مبكر ومن دون أيّ احترام للذات أو الغير.
هذا التخوّف ينتقل اليوم إلى دول المنطقة وإلى لبنان بالذات حيث تتداعى قوى عدة إلى التحسّب من السياسة الأميركية وتقلباتها الدراماتيكية التي تتوالى تباعاً من دون أيّ اعتبار لمصالح «الأصدقاء» واستثماراتهم السياسية.
المستفيد الأول من هذه التقلبات هو المحور الروسي- الصيني- الإيراني، إذ إنّ العديد من دول المنطقة ستفكر حتماً باختراع مسافة ما بينها وبين أميركا مقابل الاقتراب من هذا المحور بعدما تأكدت أنّ القطبية الأحادية في العالم تحوّلت إلى تعدّدية قطبية لا يمكن لأحد نكرانها أو الادّعاء بعدم وجودها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ