حروب الجيل السابع.. الابادة بالهجرة.. تشتيت كثافة السكان العرب
نارام سرجون
هل صحيح أن الفقر في الوطن غربة وأن الغنى في الغربة وطن كما قال الامام علي؟ ولكن هل كان الامام علي يقصد ان نهجر أوطاننا؟؟ أشك في ذلك ..
سأقول لكل من غادر رحم أرضه ولم يعد اليها انه مات لتوّه ولو عاش الى أرذل العمر .. وسأقول لكل من عاش في بحبوحة وقصور على أرض لم يولد فيها انه فقير ولو زرع الذهب في عظامه .. ولو لم يكن الشتات وجعا في العظام لما ترك اليهودي – الذي خزن ذهب الارض في حقائبه وعروقه – لما ترك الشتات وبحث عن قطعة وطن يسكنها رغم ماسيلاقيه من موت فيها .. فما نفع الذهب بلا وطن .. ومن سيحميه اذا كان عنده ذهب الارض عندما لايملك أرضا؟
ان الهجرة خارج أي وطن هي مشروع موت وانتحار للفرد والجماعة .. وهي في النهاية عندما تصبح جماعية فانها عملية ابادة للشعب تساوي في أثرها أثر الحرب الجرثومية والكيماوية والمجازر .. فكل أسلحة التدمير الشامل يقصد بها افراغ الارض من البشر لأحلال بشر آخرين مكانهم .. وهكذا فان الهجرة سلاح للتدمير الشامل ..
كل السوريين كانوا يهاجرون ويعملون ولكنهم كانوا يعودون .. اما اليوم فان كل من ينظّر للهجرة ويدعو لها ويضع لها فلسفتها ومبرراتها ويشجع عليها هو شخص لايختلف عن مجرمي داعش وقتلة الهنود الحمر وقتلة الشعب الفلسطيني .. فكل عمل يفضي لافراغ منطقة من شعبها هو عمل ينتمي الى التهجير العنصري والتطهير العرقي والابادة .. سواء كانت قسرية او طوعية ..
واليوم صار واضحا ان هناك عملا حثيثا لاستكمال ما أنجزته أميريكا وداعش وجبهة النصرة والاخوان المسلمون الذين شنوا حربا دموية للتطهير العرقي منذ لحظة سقوط بغداد ضد السكان في بلاد الشام والعراق (الهلال الخصيب) واوغل الجميع في عملية القتل .. فالاميريكون بدؤوا حفلة الذبح والتهجير من أجل ان تصبح المنطقة فارغة سكانيا ويسهل الاستيلاء عليها وتغييرها ديموغرافيا .. ففيما كان العراقيون يغادرون بلادهم التي صارت فقيرة بالعناصر البشرية اوالكفاءات تدفق المهاجرون من الدواعش ومقاتلي القاعدة من كل حدب وصوب للحلول محلهم واكمال مابدأه الاميريكيون من تطهير عرقي وتهجير وابادة ..
وفي الحملة التالية التي وصلت الى سورية تدفقت موجات مقاتلي القاعدة وداعش (التي حملها على ظهره تنظيم الاخوان المسلمين) الذين كانوا يأتون بالشيشان والتركمان والايغور ويطردون العنصر العربي من كل المناطق التي احتلوها .. فصارت الاسر الايغورية والشيشانية والشمال افريقية تنتشر في قرى ادلب وغرب حلب بدل الاسر العربية التي هربت الى تركيا .. والا لم كان كل هذا الفجور والمبالغة في العقاب في قتل السكان المحليين؟؟ ولم كان كل هذا الاسراف في القتل والاستسهال في الذبح والرعب؟ ليس لمجرد التمكين كما كان الخطاب الاسلاموي يدعي بل لدفع الناس لمغادرة المنطقة التي شهدت أكبر هجرة في التاريخ الحديث حيث انتقل بضعة ملايين في زمن قياسي الى خارج سورية والعراق .. دمر الاميريكيون المجتمع العراقي بالتدريج في فترة الحرب والحصار ابان حكم الرئيس صدام حسين .. وأفقروه وأدخلوا فيه بعد اسقاط بغداد نظاما مبرمجا على الفساد كي يغادر الفرد العراقي بلاده .. وصرنا نجد عراقيين في كل انحاء العالم .. ونشر الاميريكيون في المجتمع العراقي العنف الطائفي عمدا حتى أبادوا الوجود المسيحي تقريبا وانقرضت أقليات أخرى فيما تبعثرت العشائر وتمزقت القبائل العربية بين شيعة وسنة وداعش وبدر ..
عندما وصل المشروع الى سورية كان منهج الحرب وديدنها هو افراغ سورية من نسبة كبيرة من سكانها بالتهجير حتى تصبح عملية التغيير السكاني سهلة وتورطت تركيا عن سابق اصرار وترصد بذلك المشروع ولذلك بدأنا نفهم لم سهلت خروج السوريين اليها لتشتيتهم الى اوروبة .. وهي التي كانت تقذف بهم في البحر بمئات الالاف .. وكان لكل المنخرطين في مشروع التعيير الديموغرافي وافراغ المنطقة مصلحته ومنظوره .. ففي المنظور التركي الاستراتيجي كانت الرغبة هي في استجلاب العناصر التركمانية المهاجرة بكثافة من أواسط أسيا والتخفيف من العناصر العربية في المنطقة لجعل التحاق سورية الجديدة (وخاصة الشمال وحلب) بالموكب العثماني الجديد أكثر جدوى وثباتا ..
حتى قسد تحاول افراغ مناطقها من العرب و تتشارك في الهدف مع تركيا وامريكا في دفع سكان الجزيرة السورية العرب وغير العرب للهجرة منها .. لأن الاحزمة السكانية هي أهم وافضل طريقة لضمان الجغرافيا كيلا تتكرر الهزيمة العثمانية التي حدثت في الحرب العالمية الاولى بسبب ان المناطق التي خرجت عن السيطرة العثمانية بسهولة هي المناطق ذات الكثافة التركمانية القليلة وتفوق العنصر السكاني العربي بكثافة .. حيث انحاز العنصر العربي بقوة ضد العنصر التركي الغريب المحتل والعنصري والفاشي ..
أما الاسرائيليون فكان في منظورهم ان التركيبة السكانية الحالية لم يعد من الممكن الرهان على تغييرها بعد عدة تجارب .. فحتى المسيحيون الذين حاولت اسرائيل استمالتهم عبر تحالفاتها معهم في لبنان (الكتائب والقوات اللبنانية) لتبدو كحليفة وحامية للمسيحية لم تقدر ان تغير المزاج المسيحي العربي الذي ظل منتميا لأرضه بل ان من الجدير بالملاحظة ان العنصر المسيحي العربي كان شديد الانتماء للقضية الفلسطينية وللقضايا العربية .. فجورج حبش مسيحي .. ونايف حواتمة مسيحي .. وجول جمال ومدرسة الاستشهاد التي أسسها في بورسعيد المصرية مسيحي .. وأنطون سعادة مسيحي .. وميشيل عفلق مسيحي .. وجورج عبدالله السجين الأممي مسيحي .. وووو … بل ان سرحان بشارة سرحان الذي اغتال روبرت كينيدي في اميريكا كان مسيحيا فلسطينيا استفزه جدا في الستينات خطاب روبرت كينيدي الذي تعهد فيه بارسال 50 طائرة فانتوم الى اسرائيل لتقتل به اعداءها .. وكان سرحان بشارة سرحان يرى ان اعداء اسرائيل ليسوا فقط مسيحيين بل عربا مثله ومسلمين ينتمون مثله الى أرض واحدة ودم واحد .. فقام بالانتقام من ذلك الخطاب وعبر عن غضبه من استسهال قتل اخوته ومواطنيه من جميع المذاهب والديانات .. لأنهم أهله وجيرانه في النهاية ..
الاسرائيليون كانوا يؤيدون عملية التغيير الديموغرافي الصناعية وهندسة التغيير باحلال قوى اسلامية مهاجرة .. مقاتلون من الشيشان ومن باكستان وافغانستان والجزائر وتونس واوروبة .. وهؤلاء سيتولون عملية تصفية الأقليات كلها التي تنتج أفكارا قومية او ثورية بحكم أنها أقليات .. فالأقليات تميل للنظريات الجامعة كي تسهل انتماءها للجماعات الكبيرة .. وكذلك فان الواصلين الجدد الى المنطقة لاتربطهم علاقة جيدة بالأرض .. ولايهمهم فكر تحرير الارض من منطق وطني ولاينظرون الى اسرائيل على انها عدو تاريخي ووجودي .. اما الانتماء الديني فانه سيتلاشى ويزول وسيتم ترويضه وتهجينه بسهولة لأن هذه الفئات المهاجرة جاهلة عموما ويسهل التأثير عليها في المساجد .. وهذا ما أثبتته التجربة فكل مايقوله الشيوخ في المساجد كان يعتبر وحيا يوحى بالنسبة لأتباعهم .. دون أن يجادلهم احد فيه بحجة أنهم علماء ..
ولكن عملية التغيير السكاني تأخذ اليوم جانبا طوعيا خطيرا بسبب تدمير أسس الحياة الطبيعية في هذه المجتمعات .. فهناك نزوح جماعي وهجرة كثيفة من لبنان وسورية والعراق بسبب تردي الاوضاع المعيشية وتراجع الخدمات الاساسية بشكل مدبر .. والطائرات التي تخرج من هذه البلدان مليئة بالمهاجرين الذين لن يعودوا .. ولايمكن فهم الاصرار الاميريكي على اطالة عمر الازمات المعيشية في العراق ولبنان وسورية الا على أنها تشبه عملية قتل الهنود الحمر بقتل قطعان مواشيهم التي كانوا يعيشون عليها مما تسبب في جوعهم ونفاذ قوتهم .. فاليوم هناك عملية دفع للسكان للهجرة الطوعية في بلاد الهلال الخصيب على غرار هجرات الفرار السوري واللبناني والفلسطيني من السفر برلك .. حيث قامت يومها العائلات العربية بتهجير خيرة ابنائها الى المهاجر لانقاذهم من المحرقة العثمانية التي كانت تأخذ الشباب بمئات الالاف ليموتوا في الحروب التركية في البلقان وغيرها .. وهي حروب لاناقة لنا فيها ولاجمل .. وتسببت فترة السفر برلك في تراجع أعداد السكان العرب بسبب التجويع والانهاك بالضرائب والتجنيد والسخرة .. فتقلص عدد سكان بلاد الشام الى حد مخيف وفرغت مناطق كثيرة من السكان وتصحرت المناطق الشرقية بسبب غياب المزارعين وخلوها من السكان واليد العاملة ..
الهجرة اليوم التي تتدفق وتنزف من خلالها بلداننا بسبب تسهيل الهجرة عبر منح تأشيرات دخول في الدول الغربية واستراليا وكندا لعائلات عربية من بلادنا ومنح تأشيرات للشباب اللبنانيين والسوريين الى بلدان أخرى ليس عفويا .. وهناك طابور خامس عبر الفيسبوك يقوم بالترويج لهذه الهجرات وتزيينها في عيون الناس عبر الحديث عن النعيم في المهاجر وعن النجاحات والابداعات التي يحققها المهاجرون .. رغم انني اعرف ان كثيرا من التقارير عن النجاحات مفبرك او مبالغ فيه جدا .. وان نسبة النجاح لاتتجاوز 1% .. فبائعة الزبدة كانت تحمل شهادة في الصيدلة في سورية .. ولكنها تصبح مثالا للنجاح كبائعة للزبدة في بلد اوروبي .. من صيدلية الى بائعة زبدة يعتبر ذلك نجاحا !!! ولكن لايوجد أي منشور يتحدث عن اي نوع من المعاناة .. ولايتحدث اي منشور عن التمييز العنصري في بعض التجارب .. ولا عن تفكك القيم الاسرية وانفكاك الابناء عن ثقافتهم .. وانتمائهم الى ثقافة مختلفة .. ولايتحدث اي واحد عن الفقر الذي تعيشه أسر اخرى تعيش على المساعدات الاجتماعية التي تضعها في مراتب طبقات في قاع المجتمع .. بل تتحدث هذه المنشورات عن نوعية الحياة في سورية ولبنان والعراق والكهرباء وغلاء الاسعار والفساد .. ومن يقرأ هذه المنشورات يحس ان السوري واللبناني يعيش مثل أكلة لحوم البشر .. في الادغال .. بل هناك ناشطون يتبرعون بكثافة لنشر دعايات لطرق الاستثمار في تركيا ومصر والسودان .. وهي طريقة أخرى في نقل كل مافي المجتمع السوري من امكانات ومابقي من أموال الى تركيا وغيرها .. وكأننا لم نتعلم من تجربة بنوك لبنان التي هربت باموال السوريين وهي تجربة قد تتكرر في تركيا التي تعيش على كف عفريت في الاقتصاد .. لأن الغاية هي ان تصبح أموال السوريين خارج سورية بالكامل .. وتصبح رهينة في تركيا او اوروبة التي تستطيع تجميد اي أرصدة بأية ذريعة .. وهكذا تفرغ البلاد من المال ومن الكفاءات والخبرات والاستثمارات .. وتصبح خاوية على عروشها .. فقر في الاقتصاد والامكانات .. وفقر في العناصر البشرية التي تبني وتزرع وتصنع وتنتج .. وهذا يعني مزيدا من الانحلال في المجتمع والتفكك فيه وتحوله الى مجتمع ضعيف وواهن بسبب الفقر الذي ينتج فقرا ..
كل من يريد ان يتحدث عن سورية اليوم لايتحدث الا عن الفقر والاسعار والكهرباء والرغبة في الهجرة .. رغم أن مؤسسات الدولة على مافيها من ترهل تحاول ان تحل المشاكل الكثيرة ولكنك تجد ان الاميريكيين يقفون حراسا على حقول القمح وحقول النفط والغاز ودمروا زراعة القطن لزيادة المعاناة واليأس .. وان المصارف اللبنانية سرقتنا بخطة امريكية وسرقت اموال تجارنا الذين كانوا يلتفون على العقوبات ويقومون بتأمين احتياجات البلاد من ميناء بيروت الذي تم تدميره لافقار السوريين واللبنانيين .. ومع هذا لايريد البعض ان يفهم الا ان القضية كلها سببها فشل جماعي وحكومي في تدبير شؤون البلاد..
هذا الدفع للتغيير الجغرافي يتم في كل المناطق العربية .. التغيير الديموغرافي ناشط جدا في ليبيا عبر الاتيان بهجرات افريقية تدريجية تأتي بحلم الهجرة الى اوروبة ولكنها تحتجز وتبقى في ليبيا .. وتدريجيا سيتم توطينها وتصبح المنطقة غير عربية وتشكل فاصلا جغرافيا بين بلدان شمال افريقيا وينتهي التواصل الجغرافي الطويل الامد للعرب شمالي افريقيا منذ وصول عقبة بن نافع الى “بحر الظلمات” ..
ومايحصل في الخليج العربي المحتل هو خطة بريطانية اميريكية قديمة عمرها 25 سنة لتوطين مهاجرين وتغيير في النسب السكانية تدريجيا الى ان يصبح التناسب السكاني في غير مصلحة السكان الاصليين .. وهذا الامر سيتم حتما ..
وقد نصل في المنطقة العربية يوما الى انها ستصبح خليطا غير متجانس من المهاجرين بين عرب صاروا أقل كثافة الذين سيصير كل همهم ان يحافظوا على أحيائهم العربية المحاصرة بمستوطنين ومهاجرين غرباء اثر تناقص كثافتهم بعد ان كانوا يحاولون الحفاظ على وطن من المحيط الى الخليج ..
وهذا يعني ان اسرائيل وغير اسرائيل سيصبح أكثر قوة وأمانا .. وهي محاطة بجغرافيا فارغة من العدو .. أو محاطة بعدو صار أقلية في وطنه .. وأشتاتا في المهاجر ..