ناصر قنديل-البناء
– يعلم الأميركيون عندما يقولون أنهم انسحبوا من أفغانستان لأنهم يريدون التفرغ لمواجهة الصين أنهم يكذبون، فمن يريد مواجهة الصين لا ينسحب من موقع يتيح مواجهتها من مسافة صفر، كما يعلمون أنهم عندما يقولون بأن أهمية ما يسمونه بالشرق الأوسط تنخفض لأنهم يريدون التفرغ لمواجهة الصين أنهم يكذبون لأن من يخرج من الشرق الأوسط يخرج من الاقتصاد والسياسة الدوليين، ويعرف الأميركيون أنهم عندما يقولون أن حلفهم مع بريطانيا وأستراليا في المحيطين الهادئ والهندي يترجم عزمهم على مواجهة الصين يعرفون أنهم يكذبون لأن هذا الحلف أقرب للحلف الدفاعي في مواجهة خطر صيني وليس طريقاً لفرض حصار على الصين التي تتقدم في كل أسواق العالم وبحاره ومحيطاته.
– الأصدق في الكلام الأميركي هو ما اعترف به الرئيس جو بايدن بقوله إن الانسحاب من أفغانستان والانسحاب المحتمل من الشرق الأوسط، يترجمان فشل الاعتماد على القوة العسكرية لصناعة السياسة، وأن الحلف الثلاثي يقيم ميمنة بريطانية وميسرة أسترالية غرباً وشرقاً للأمن الأميركي، في خطة إعادة تموضع عنوانها أولوية الأمن القومي الأميركي، والتخلي عن مهمة شرطي العالم، أي عن الدور الإمبراطوري، ويعرف الأميركيون كما يعرف الأوروبيون أن سر الانتفاضة الأوروبية الكلامية بوجه الانسحاب من أفغانستان لم يكن طلب كرامة الشراكة بل الشعور بالقلق من هذا الاعتراف الأميركي بسقوط الرهان على القوة العسكرية، بالتالي طرح مصير حلف الناتو وجدوى الحفاظ عليه على بساط البحث، وهو ما بشرت به الخطوة العسكرية الأميركية في المحيطات البعيدة بإعلان الاستغناء عن أوروبا، من بوابة إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا.
– الاهتمام الأميركي باحتواء سريع لتداعيات خطوة سفن كسر الحصار التي أقدم عليها حزب الله يتجاوز معادلة الفشل في تكسير الحطام اللبناني على رأس المقاومة، كما يتجاوز الخشية من تحويل الحزب لهذا التحدي إلى فرصة، يصفها “الإسرائيلي” بسقوط لبنان في حضن حزب الله بدلاً من سقوطه على رأسه، فمركز الاهتمام الأميركي نابع من الحفاظ على صدقية ونقاء نظريته القائمة لتبرير الهزيمة في الحروب البرية بنظرية أولوية الإمساك بالبحار والممرات المائية، وقد نجح حزب الله بنقل معادلة الردع من البر إلى البحار متحدياً الأميركي في أهم الممرات المائية الممتدة من هرمز إلى باب المندب وقناة السويس، بصورة لا تتيح للأميركي فرصة الاشتباك وتعريض أمن “إسرائيل “ لخطر وجودي، ولا الانسحاب والقول بلا جدوى البحار والممرات المائية، فبدأ مسار التراجع أملاً ببلوغ نقطة يرضاها حزب الله لوقف التحدي، عارضاً الإفراج عن الحكومة ورفع الحظر عن التشبيك مع سورية كثمن، لإنقاذ النظرية التي يحتمي بها للانكفاء الاستراتيجي، وسيعرض المزيد.
– تفكك الناتو لم يعد توقعاً، إنه يتفكك، هذا معنى الأزمة التي تفجرت مع إعلان الحلف الثلاثي الأميركي- البريطاني- الأسترالي الذي يلبي متطلبات الأمن القومي الأميركي بصورة أفضل مما يفعل الناتو، المخصص لمعارك أوروبا وآسيا التي خرجت من دائرة الأولوية الأميركية، وأوروبا المعتمدة على القوة الأميركية، لن تستطيع في زمن التراجع الأميركي أن توفر فرص بناء حضور عسكري يتيح لها حفظ المصالح الاستعمارية وتنظيم تدخلات عسكرية تنقذ المصالح المتداعية أمام نمو نهضة شعوب آسيا ودولها، وفي طليعتها روسيا والصين وإيران، وفي قلبها محور المقاومة، فستلجأ إلى لعب دور سمسار التسويات، كما لعبت دور سمسار الحروب، محاولة تعديل نسبة العمولة تحت عنوان تحصيل شرفي وتعويض الإساءة المعنوية بالتفرد والتخلي عن الناتو من طرف واحد، وهذا ما يقوله الإسراع الفرنسي للتراجع عن الحرد، والإسراع بطلب حجز مقعد في لبنان وتسوية الملف النووي الإيراني، وقبلها مسارعة ألمانيا لحجز مقعد في المفاوضات الأميركية- الروسية بالحصول على رفع العقوبات الأميركية عن أنبوب السيل الشمالي، لتزويد أوروبا بالغاز الروسي.
– تفكك الناتو يطرح بقوة مصير تركيا، وموقعها في المشهد الجيواستراتيجي الجديد، وقد حاولت تركيا تشكيل مخلب الناتو المتقدم في الحرب على سورية، ولاحقاً في مواجهة التموضع الروسي فيها، وعندما بدت الكلفة عالية وظهر التخلي الأميركي والأوروبي عن المواجهة، تراجعت أنقرة خطوة إلى الوراء، وهي تتربص كل سانحة يبدو فيها الغرب جاهزاً لتبديل القرار أم بالتقدم خطوتين إلى الأمام، وروسيا التي فتح الباب للاحتواء المزدوج أمام تركيا بالعصا والجزرة، تدرك اليوم أن تفكك الناتو يتزامن مع عبث تركي ومحاولة فرض أدوار من خارج السياق، من ليبيا إلى أذربيجان وصولاً إلى أفغانستان، عدا عن التلاعب بروزنامة التفاهمات التي تم الوصول إليها عبر مسار أستانة بالنسبة لسورية، ما يعني توقيت تأديب جديد للسياسات التركية يقترب وأن إدلب ستكون على موعد طال انتظار توقيته الروسي، لينفتح بعد الحسم على طريقة حلب الباب مجدداً لتموضع تركي جديد، قد يكون الشرط الروسي فيه مغادرة تركيا للناتو لفتح الطريق أمامها لعضوية شانغهاي.