“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
ما يتمنّاه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يُدركه: دخل إلى السراي من خلفية المُصلح الإجتماعي ولزوم أهل السلطة “المزروكين” ، ويدخل إلى الإليزيه من خلفية المُنقذ في زمن “قلّة الرجال”، وباريس طبعاً جاهزة للمساعدة.
الموضوع أعمق من إنقاذ سلطة سياسية لبنانية متهالكة ، او إنقاذ هذا البلد ممّا هو فيه كما يحبّذ البعض أن يطرح. في هذا السياق تفوق المصالح الاستراتيجية الكبرى كل العناوين المطروحة، وبطبيعة الحال فرنسا تعمل على استعادة دورها أو جزءاً منه في المنطقة، لذا لا ريب من أن إمكانية إبرام الصفقات ترتفع في هذه الحال، والطبقة السياسية المحلية اللبنانية الموصوفة بأنها “خبيرة صفقات” لن تفرّط بهذه اللحظة التاريخية!
لكن الأمور مع نجيب ميقاتي ستبقى مضبوطةً تحت سقف محدّد أو حُدّد له، سواء من قبل الطبقة التي يمثّل مصالحها الآن، أو فرنسا التي وكّلته تمثيل مصالحها الحيوية داخل الحقل اللبناني، وبالتالي إن الشذوذ عن القاعدة لن يحصل، أو أقلّه لن يحدث بالقدر الذي تطمح إليه الطبقة الحالية.
في الواقع، فرنسا لم تنصّب نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة اللبنانية إنما نصّبته ناظراً سياسياً لها، أشبه بحال النُظّار في المدارس. عملياً، الأوراق كلها جُمعت أو اجتمعت بين يديه، من مسألة التخطيط لمسار الإنقاذ أو الإشراف عليه أو قيادته، وهنا تُصبح الأدوات كلها + القرار السياسي والتنفيذي في يد ميقاتي، والجميع تقريباً متفهّم لا بل منصاع إجرائياً، بينما الوزراء الآخرين والذين ثبتت واقعاً الآن، ضحالتهم الفكرية والسياسية، سيكونون بمثابة “كومبارس” أو منفّذ لتوجيهات ميقاتي، المنفّذ بدوره للرغبات الفرنسية في الإصلاح تأميناً للمصلحة العليا طبعاً.
فرنسا الحالية تنظر إلى نفسها على أنها صاحبة القدرة في ترسيخ التوازن في المنطقة، وكنتيجة طبيعية لتوسّع دائرة علاقاتها، تجد نفسها جهةً قادرة على جمع الأضداد، هذا إلى جانب امتلاكها لشركات كبرى في مجال الطاقة والإستثمار، وهذه طبعاً مواد عضوية أساسية تصلح للإستخدام. بهذا المعنى لما لا تتقدّم نحو مناطق الإشتباك التقليدية وتطرح وجهة نظرها، أو نفسها؟
في المسألة اللبنانية، يجوز للبعض القول أن فرنسا وزائداً عن كونها طامحة للعودة السياسة من بوابة الإنقاذ التي تجرّ فوائد كثيرة، تطمح أيضاً إلى تولّي الإستثمار في مجالات الطاقة والأشغال والإتصالات والإقتصاد والتنمية الإدارية اللبنانية..إلخ، ولن يطول الأمر حتى تتداخل و المانيا الطامحة بدورها إلى تولّي جانب من خطة الإنعاش الإقتصادي في لبنان.
في البحر، تهيئ باريس لعودة “توتال” إلى التنقيب، ولو أن البلوك رقم 9 الجنوبي اللبناني لم يُدرج في موازنة الشركة لهذا العام. في المقابل، ثمة تركيزٌ فرنسي على إحياء مشاريع ضمن قطاعات الأشغال والطاقة والإتصالات وسائر البنى التحتية الرئيسية. ومن المفيد التذكير هنا أن الحقائب الراعية لهذه المشاريع أو المُشرفة على ملفاتها، إمّا جُيرت إلى مقرّبين من السياسة الفرنسية أو بالتقاطع مع أحزاب مثلت عليها شكلياً، والسمة المشتركة أنها ذهبت إلى وزراء يحملون الجنسية الفرنسية ومن خرّيجي جامعاتها، أي من حملة الأفكار الفرنسية وأسلوب الحياة الفرنسي، وليس صعباً عليهم أو مزعجاً عندهم ، مناقشة فرنسا أو الإستماع إليها أو حتى الأخذ بوجهة نظرها في كثيرٍ من الأمور.
من هنا ستنخرط باريس في ورشة الإصلاح المقبلة، التي تمثّل بالنسبة إليها ورشة استثمارات كبرى تدرّ فوائد متعددة الجوانب، وهذا طبعاً متّصل بحالة الهدوء السياسي والأمني اللبناني. فالإستثمار يحتاج إلى ظروف مثالية، وهنا يُفترض أن يتمّ تهيئة الساحة اللبنانية لذلك. ومن الآن وحتى الإنتخابات اللبنانية أقلّها، ستنعم الساحة بهدوءٍ لافتٍ أو محدود أو جيد إلى حدٍ ما، وربما ينسحب ذلك على مجمل الأمور في ضوء الحديث عن مخارج كثيرة لمعضلات لبنانية كبيرة.
دور نجيب ميقاتي هنا ليس سهلاً، سينخرط بالإشراف على كافة الملفات، ويبدو من حركته الآن واتساع حدودها ورقعة علاقاته بالسياق نفسه، أنه جاهز ومستعد طالما أنه يحظى بمظلة دولية ودفع فرنسي واضح كما يقول.
تبقى المسؤوليةُ ملقاة على المايسترو الدولي، الذي عليه فتح الصناديق أمام الورشة اللبنانية. هذا بطبيعة الحال يحتاج إلى قرارات على مستوى تلك الدول، إلى حدٍ ما يحتاج إلى قرار برفع الحصار أقلّها الأميركي عن لبنان. ويتردّد في هذا المجال أن هذا الإحتمال ممكن، طالما أنه يُبنى على عدة فوائد من بينها قرب الإنتخابات اللبنانية وبالتالي رغبة الولايات المتحدة باستثمار إجراءاتها فيها، وبعدما أدركت الكثير من الدول أن الحصار يرهق الدولة اللبنانية ككل، وهنا الإكتراث بالدولة تلك ليس عطفاً على تأثيرها على الساحة أو قوتها، بقدر موقع هذا البلد على الخارطة.