فيما ركز العالم على أفغانستان طوال الشهر الماضي، جرى التوصل إلى تسوية تاريخية في يوليو/تموز الماضي بمجلس الأمن بين أمريكا وروسيا لم تحظَ باهتمام كبير. ففي 9 يوليو/تموز الماضي، صاغت أمريكا وروسيا القرار رقم 2585، الذي يمدد إيصال المساعدات الإنسانية الحيوية لمدة عام عبر أحد المعابر الحدودية إلى سوريا (باب الهوى) غير الخاضعة لسيطرة النظام السوري.
وتجاوز القرار شكوكاً عارمة أجَّجها عقدٌ من الخلافات الأمريكية الروسية بشأن نقل المساعدات العابرة للحدود ومراقبتها وتوزيعها، ودور العقوبات الغربية المفروضة على سوريا. ويخضع القرار لمراجعة بعد 6 أشهر من أجل تجديده بالكامل. كان تنفيذ القرار في أحسن الأحوال بطيئاً. لكنَّ تقريراً مهماً من الأمم المتحدة بشأن التقدم المُحرَز، من المنتظر أن يصدر في أكتوبر/تشرين الأول 2021 قد يساعد في تسريع التقدم.
وفي تأكيدٍ استشرافيّ نادر، يحث القرار مجلس الأمن على تطوير “خطوات عملية لتلبية الاحتياجات المُلِحَّة للشعب السوري في ضوء التأثير الإنساني الاقتصادي-الاجتماعي العميق لجائحة كوفيد 19″ و”لتوسيع الأنشطة الإنسانية، بما في ذلك مشروعات التعافي المبكر المرتبطة بالماء والصرف الصحي والتعليم والمأوى” وتحسين الشفافية في العمليات.
وتُوجِد المادة الخامسة من مشروع القرار دوراً قوياً للأمين العام للأمم المتحدة في مراقبة تنفيذ الاتفاق. ويجعل هذا تقرير الأمين العام أنطونيو غوتيريش، المُتوقَّع صدوره في أكتوبر/تشرين الأول، محورياً في تقييم إنجازات وأوجه قصور الأطراف التي صاغت قرار مجلس الأمن رقم 2585 والأمم المتحدة نفسها.
“التسوية الأمريكية الروسية هي انتصار دبلوماسي”
حول ذلك، يقول جورج لوبيز، الباحث بمعهد كوينسي الأمريكي في تحليل له بموقع Responsible Statecraft الأمريكي، إن التحديات الواردة في القرار ذات شقين. الأول هو ترسيخ إيصال المساعدات بالتوافق مع بنود القرار وفي الوقت المناسب قبل مراجعة الأشهر الستة في يناير/كانون الثاني المقبل. والثاني هو البناء على التوافق الذي جرى التوصل إليه في يوليو/تموز الماضي من أجل تطوير إطار عمل تتخذ بموجبه القوى الكبرى والنظام السوري خطوات إضافية إيجابية ملموسة ويمكن التثبُّت منها؛ من شأنها تخفيف معاناة السوريين في مختلف أنحاء البلاد.
بالنسبة للبلدان الغربية الرئيسية، يُعَد القرار 2585 انتصاراً دبلوماسياً يفيد الشعب السوري، بما في ذلك أكثر من 3 ملايين سوري يعيشون شمال غربي سوريا تحت سيطرة المعارضة. ورحَّبت سفيرة الولايات المتحدة الدائمة لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، بالاتفاق الأمريكي الروسي النادر، وأشارت إلى “أنَّنا تجنَّبنا كارثة لشعبٍ عانى كثيراً للغاية بالفعل”.
لكن بالنسبة لآخرين، خصوصاً مَن هم في دوائر حقوق الإنسان والمساعدات الإنسانية، جاء القرار في مستوى أقل بكثير من تلبية احتياجات السوريين المعرضين للخطر. فانتقدت منظمة العفو الدولية مجلس الأمن لعدم ضغطه على روسيا من أجل فتح نقاط عبور أخرى. وذهبت منظمة هيومن رايتس ووتش أبعد من ذلك، فانتقدت موسكو لـ”تسييس المساعدات الإنسانية وتهميش أرواح المدنيين في شمال سوريا”.
يقول لوبيز إن هناك دوافع للاعتقاد بأنَّ تحليل غوتيريش سيكشف أنَّ كلاً من وجهتيّ النظر تتمتعان ببعض المصداقية استناداً إلى تطورات الشهرين الماضيين. فمن ناحية، تشير تقارير موثوقة من مصادر داخل إدلب إلى أنَّ شحنة البضائع الأولى التي تعبر الحدود من برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة لم تصل إلا في 31 أغسطس/آب، ويُستبعَد أن تصل شحنة أخرى حتى أواخر سبتمبر/أيلول الجاري.
ومن ناحية أخرى، يشير مصدر إلى أنَّ المبعوث الأمريكي الخاص، بريت ماكغورك، عقد لقاءين في يوليو/تموز وأغسطس/آب مع نظرائه الروس للانخراط في مقاربات تعاونية لجعل تدفق مزيد من المساعدات إلى سوريا بدون عراقيل وفي الوقت المناسب.
ويمكن أن يكون تقرير غوتيريش قاسياً ومنتقداً للجهود المبذولة حتى تاريخه، ويجد أيضاً أنَّه على الرغم من البداية البطيئة، يمكن حشد إغاثة كبيرة ومستدامة على مدى الأشهر المقبلة. وقد ضغط الأمين العام بقوة على كل عضو بمجلس الأمن لتمرير القرار 2585، وربما يحتاج الآن لتنشيط القرار بصورة كاملة.
“القرار 2585 نقطة انطلاق لتعاون أكبر حول سوريا”
من جانبه يقول هرير باليان، مدير برنامج تسوية النزاعات بمركز كارتر الأمريكي: أعتقد بشدة أنَّ قرار مجلس الأمن رقم 2585 يمكن، ولا بد، أن يكون نقطة انطلاق لتعاون القوى الكبرى مستقبلاً بما يفيد السوريين. وهذا الاتفاق هو الأول الذي تُظهِر فيه الأطراف الرئيسية في الصراع السوري، المحلية والدولية، بعضَ الاستعداد للتخلي عن مطالبهم القصوى. وإذا ما أنتج القرار 2585 تعاوناً أكبر في عمليات الإغاثة، يمكن أن يكون أساساً ثابتاً لتوسيع الإغاثة.
ويضيف باليان، أن التسوية الأمريكية-الروسية لم تكن كارثة خطيرة أو معجزة غير متوقعة. بل كانت نتاجاً لدبلوماسية عازمة تضمَّنت حتى مناقشة حالة الجمود من جانب الرئيسين جو بايدن وفلاديمير بوتين خلال قمتهما في جنيف في يونيو/حزيران الماضي. ولا بد من أن يُرحِّب ويُحفِّز الأمين العام وأعضاء مجلس الأمن الآخرون بالمزيد من هذه الدبلوماسية، مثل تلك التي أدت إلى قرار 9 يوليو/تموز. ويجب على القوتين نفسيهما أن تتذكرا مدى نجاح تسويتهما قوية الإرادة في فتح إمكانات جديدة لوقف المأساة السورية.
فمع إصرار الولايات المتحدة على فتح المزيد من المعابر الحدودية وتهديد روسيا بعرقلة أي إيصال للمساعدات عبر المعابر الحدودية الخارجة عن سيطرة النظام السوري، دخلت هاتان القوتان في سياسة حافة الهاوية عالية المخاطر، حتى لم تعودا تريان أنَّ الجمود والنهج المعرقل في مصلحة سوريا.
وفي النهاية، تخلت واشنطن عن فكرة إضافة معبر حدودي ثان ووافقت على المزيد من الشفافية إلى جانب “التقدم في إمكانية الوصول عبر الحدود لتلبية الاحتياجات الإنسانية”. وهذه الجملة الأخيرة ترمز لزيادة إيصال المساعدات الإنسانية عبر نقاط التفتيش بين الأراضي التي يسيطر عليها النظام السوري وتلك التي تسيطر عليها المعارضة.
“تخفيف المعاناة”
ويهدف تقرير الأمين العام المقرر صدوره في أكتوبر/تشرين الأول، ثم صدوره بشكل دوري بعد ذلك، إلى زيادة الشفافية بخصوص إيصال المساعدات الإنسانية عبر معبر باب الهوى. ويمكن لتقييمات غوتيريش أيضاً أن تُهيِّئ الظروف لفتح مزيد من المعابر وخضوعها لمراقبة الأمم المتحدة. وربما يقترح إجراءات أخرى يمكن اتخاذها من جانب الفاعلين الأكثر انخراطاً في القرار 2585.
ويحض كل من لوبيز وباليان في تحليلهما بموقع Responsible Statecraft الأمريكي على اتخاذ المزيد من الخطوات، بما في ذلك توسيع الإعفاءات الإنسانية بصورة أكبر، والمساعدة الأمريكية الأوروبية في توفير اختبارات ولقاحات كوفيد 19 لبرنامج سوريا في منظمة الصحة العالمية. علاوة على ذلك، يجب أن تعلق الولايات المتحدة العقوبات على تلك المواد بالغة الأهمية التي تُوجَد حاجة لها في مشروعات المياه والصرف الصحي والصحة والتعليم وإعادة الإعمار التي تُمثل بنى تحتية أساسية للأمن البشري للشعب السوري.
وسيؤدي تسهيل تحويل الحوالات المالية من المغتربين السوريين إلى عائلاتهم في سوريا لشوط طويل نحو تخفيف المعاناة، وسيقلل من اعتماد السوريين على المساعدات الإنسانية. وبلغ إجمالي هذه التحويلات نحو 1.6 مليار دولار سنوياً من خلال الأنظمة المصرفية الرسمية، ونحو 8.5 مليار دولار إذا ما شملت آليات التحويل غير الرسمية مثل تطبيق “Hawala”.
يقول الباحثان الأمريكيان: مع ذلك، يجب على الجانب السوري الرد بصورة مماثلة أيضاً، ويمكن أن تضطلع روسيا بدور رئيسي هنا. ويمكن أن تكون إحدى نقاط الانطلاق الجيدة للبدء بها هي توفير النظام معلومات للأسر حول هُويات المعتقلين المحتجزين في سجون النظام وأقبيته، والسماح بالزيارات الأسرية، والسماح بإمكانية وصول مستقل للجنة الدولية للصليب الأحمر. يمكن أن ترد سوريا أيضاً على دعوة وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في 11 أغسطس/آب بتوفير معلومات حول أوستن تايس، الصحفي الأمريكي الذي اختُطِفَ قرب دمشق قبل نحو 9 سنوات.
وسيكون هدف إجراءات “بناء الثقة” هذه هو تنشيط الدبلوماسية متعددة الأطراف عموماً، وبصفة خاصة التحرك المشترك الأمريكي الروسي، نحو نهاية مستدامة للصراع السوري وبدء التعافي الاقتصادي. وكان هذا التعاون الجديد بين القوى الكبرى هدفاً لغوتيريش طوال الصراع السوري. ونأمل أن يتمكن تقريره المقبل من الإشارة إلى هذه النجاحات المبكرة ويعمل بنشاط على اغتنام الفرص الناشئة للمساعدة الإنسانية للشعب السوري.