الأخبار – لقمان عبدالله
ليست التطوّرات الميدانية الأخيرة في اليمن منزوعة من السياقَين الإقليمي والدولي اللذَين يبدو أن قوات صنعاء أتقنت استثمارهما في الدفْع نحو تحوّلات دراماتيكية في الخارطة الميدانية، لم تكن تنتظر إلّا اللحظة المناسبة على اعتبار أن الجاهزية العسكرية لها ظلّت متوافرة دائماً. وإذ يَظهر أن من شأن تلك التطوّرات تأمين مكتسبات استراتيجية مستقبلية فائقة الأهمية للجيش اليمني و«اللجان الشعبية»، فهي ستُضيّق في المقابل الخيارات أمام كلّ من واشنطن والرياض، خصوصاً أن أهداف كليهما من هذه الحرب قد تحوّرت بعد أكثر من ستة أعوام على بدئها.
على وقع المتغيّرات الميدانية المتسارعة في اليمن والتي تَمثّلت في تمكّن قوات صنعاء ـــ في وقت قياسي ـــ من تحرير أربع مديريات في محافظة شبوة ومديريتَين جديدتَين في محافظة مأرب، والاقتراب من حقول صافر النفطية، ساد جوّ من التشاؤم الأوساط اليمنية الموالية للتحالف السعودي ـــ الإماراتي بعدما اتّضح لها أن خياراتها أضحت محدودة، فيما بدأ الكثير من القبائل والشخصيات السياسية والاجتماعية والعسكرية فتح قنوات اتصال مع صنعاء من أجل العودة إليها. ويأتي ذلك بينما فشلت الجولات المكّوكية للمبعوثَين الأممي هانس غروندبرغ، والأميركي تيموثي ليندركينغ، بين العاصمتَين السعودية والعُمانية، إلى الآن في إحراز أيّ نتيجة، وهو ما قد يضع التحالف أمام خيار وحيد متمثّل في الاستجابة لمطلب رفع الحصار الجوّي والبحري والبرّي، خصوصاً في ظلّ إدراك كلّ من واشنطن والرياض أن المكتسبات الميدانية الأخيرة لقوات صنعاء أمّنت لها عدّة أهداف استراتيجية في آنٍ واحد، وأعطتها أفضلية مستقبلية في الوصول إلى شواطئ بحر العرب للمرّة الأولى منذ بداية الحرب، وكذلك السيطرة على منابع النفط والغاز في محافظتَي شبوة ومأرب.
أتقنت صنعاء التي تمتلك زمام التحكّم بالمجريات الميدانية، الاستفادة من التحوّلات الأخيرة في المنطقة، بدءاً من وصول إدارة جديدة أكثر حزماً إلى سدّة الحُكم في إيران، مروراً بانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وليس انتهاءً بالتراجع الأميركي في سوريا ولبنان، للدفع نحو تبدّلات دراماتيكية في خارطة القتال، بينما فشل أصحاب القرار السعوديون، ومن خلفهم القادة الأميركيون، في تقدير انعكاسات تلك التحوّلات على الساحة اليمنية. وعلى رغم أن «أنصار الله» حاولت سلوك طريق السِلم، عبر مبادرة مأرب التي قُدّمت إلى الوفد العماني الذي زار صنعاء منذ أشهر (لم تَعُد المبادرة صالحة حالياً، إلّا في البنود المتّصلة بالقبائل)، لم يلتقط كلّ من الرياض وواشنطن الفرصة، وراهنتا على فشل الهجوم اليمني على مأرب، وهو ما ظهر أكثر من مرّة (آخر تصريح في 16 أيلول الجاري) على لسان ليندركينغ الذي استبعد «انتصار الحوثيين»، معتبراً أنهم وصلوا إلى «طريق مسدود». كذلك، لم يأخذ الجانبان السعودي والأميركي على محمل الجدّ تحوّل الخطاب السياسي في صنعاء نحو رسم ملامح مرحلة ما بعد استعادة مأرب، مثلما جاء على لسان قائد حركة «أنصار الله»، عبد الملك الحوثي، في بداية الشهر الحالي، حيث أكد «أننا سنحرّر كلّ بلدنا، ونستعيد كلّ المناطق التي احتلّها تحالف العدوان».
أعطت المكتسبات الميدانية الأخيرة قوات صنعاء أفضلية مستقبلية للوصول إلى شواطئ بحر العرب
يُضاف إلى ما تَقدّم، أن تراجع العلاقات السعودية – الأميركية منذ بداية عهد جو بايدن، ترك انعكاساته على الشراكة بين الجانبين في الحرب على اليمن، على رغم استمرار انخراط واشنطن فيها. إذ يلحظ مراقبون، من خلال الأداء الأميركي في المفاوضات، أن الولايات المتحدة تعمل على إطالة الحرب، وأن هناك تغيّراً في أهداف مشاركتها فيها، بعدما قرّرت تصعيد مستوى مواجهتها مع الصين، وحشد قواها العسكرية في المحيطَين الهادئ والهندي المتّصل ببحر العرب، والذي يُعتبر أحد الممرّات الحيوية للصين في إطار مبادرة «الحزام والطريق» إلى المتوسّط وأوروبا. أمّا السعودية، فقد تراجعت، هي الأخرى، عن هدف إدامة الوصاية على اليمن، وبات طموحها مقصوراً على حماية حدودها الجنوبية وتحصين أمنها القومي. لكن التراجع السعودي لم يمنع الزعل من «الحليف» الأميركي، والذي تمثّل أبرز تجلياته في العاشر من الشهر الجاري، حينما أجّلت السعودية زيارة وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، إلى الرياض، في ما فُسّر على أنه احتجاج على سحب منظومات الدفاع الجوي (باتريوت، ثاد) الأميركية من قاعدة الأمير سلطان الجوية، وأيضاً على خلوّ جدول أعمال الوزير الأميركي من بند مناقشة الملف اليمني، وهذا ما تحدّث عنه أوستن نفسه بالقول: «قمنا بترتيب هذه الرحلة في وقت قصير جداً. السعوديون لديهم بعض المشاكل المتعلّقة بالجدولة، وكما تعلمون، لا يمكنني التحدّث عن ذلك»، علماً أن الزيارة اقتصرت على بند واحد هو ترتيب الأوضاع في أفغانستان، والذي استُبعدت السعودية من المناقشات الجارية في شأنه.
ولم تكن الحرب على اليمن منذ فترة المداولات الأولى بشأنها، ومن ثمّ اتخاذ القرار ببدئها والإعلان عنها من واشنطن، مروراً بكلّ مجرياتها، منفصلة عن السياقَين الإقليمي والدولي. ولعلّ هذا ما يتّضح في حديث سابق لمسؤول الملفّ الإيراني في الإدارة الأميركية الحالية، روبرت مالي، الذي كشف أن «السعودية كانت ستتصرّف بشكل وشيك مع الولايات المتحدة أو من دونها، لكنها فضّلت المضيّ قُدُماً بمساعدة أميركية، وفي النهاية، أوصى فريق الأمن القومي التابع للرئيس باراك أوباما بالمضيّ قدماً في قدر من المساعدة للحملة السعودية»، تَمثّل في إنشاء خلية تخطيط مشتركة في الرياض من شأنها «تنسيق الدعم العسكري واللوجستي والاستخباراتي»، وفق ما أعلن البيت الأبيض نفسه. وعلى امتداد عمر الحرب، شهدت المنطقة تحوّلات مهمّة كان لها أثرها العميق في اليمن، سواءً لناحية العلاقات بين الدول المشاركة في العدوان، أو تبدّل تحالفات القوى المحلية وأدوارها، أو إعادة تشكيل التموضعات العسكرية.