“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
أحياناً، تُطرح قضايا في هذا البلد عصيّة على الفهم، ليس عجزاً إنمّا لما تتضمّنه من دجل وادّعاء يتجاوز المنطق والقانون، ويُراد للعامة تصديقها كمثل ما يُطرح حول “المناطق المتنازع عليها” الواقعة جنوب الخط 23، التي وفي الحقيقة ليست موجودة في سجلات الأمم المتحدة لغاية تاريخه.
من الناحية القانونية لا يوجد منطقة متنازع عليها سوى المنطقة البالغة مساحتها ٨٦٠ كلم مربع، التي فرضها العدو داخل المياه اللبنانية والواقعة كلياً شمال الخط23! وبالتالي مطالبة لبنان الرسمي بوقف أعمال شركة “إنرجين” اليونانية و “هاليبرتن” الأميركية في حقل “كاريش”، ليس لها أي معنى وأي تاثير فعلي إلاّ في حال تعديل المرسوم 6433 واستبدال الخط 23 بالخط 29 وإيداعه الأمم المتحدة.
منذ أن عاد ملف الترسيم إلى الواجهة على إثر التلزيمات التي وزّعها العدو في المنطقة الإقتصادية اللبنانية التي يطال بها لبنان، انشغل الرأي العام في الحديث حول “المناطق المتنازع عليها”، وهي على الأعمّ الاغلب وسيلة للتغطية عن عجز السلطة أمام حماية الحقوق اللبنانية. تعويم هذا المصطلح واجتراره من قبل السلطة السياسية على الدوام ومن دون وجود إطار قانوني يرعاه، يُعدّ ضرباً من ضروب الخداع، ويُقصد منه إخفاء معالم التقصير و التهرّب الرسمي اللبناني من واجباته في صون الحقوق، وهو مصطلح أساساً لا يخدم حالتنا القانونية الراهنة، وفي الإعلام لا ينفع إلاّ في مقام الإستهلاك وإلهاء الرأي العام و تجهيل الفاعل والأدوار السلبية التي تؤديها السلطة السياسية، التي ترفض لحينه اعتبار الأراضي المسلوبة من قبل العدو بمحاذاة الناقورة على أنها “أراضٍ متنازع عليها” تحميها القوانين الدولية، وليست الغاية من وراء “اجترار المصطلح” سوى حماية “شهود الزور” من المتورّطين الحقيقيين في التفريط بالحقوق اللبنانية.
هكذا ببساطة هي الأمور، وعليه لا معنى لكل الدجل الحاصل في تظهير الإجتماعات واللقاءات والمزاعم المنتشرة كالفطر حول استعداد هذه الجهة أو تلك للمساعدة في تسييل مسار المفاوضات غير المباشرة مع العدو لاحقاً، و الأدوار (الايجابية) لهذه السفيرة وتلك، والتي ينطبق عليها وصف “السلطة السياسية” أعلاه.
بإختصار، كل المسألة ومن دون لفّ أو دوران، تحتاج إلى قرار جريء وتتصل بقرار واحد لا ثانٍ له: توقيع التعديلات على المرسوم 6433، وهذا يكفل:
– عودة مسار المفاوضات غير المباشرة دون تكبّد لبنان أي جهد دبلوماسي كما يحدث الآن.
– تحول الجهود الدبلوماسية إلى الدول الراعية للمفاوضات غير المباشرة.
– قطع الطريق على العدو لاستئناف خططه في البحر.
– تأمين تنازلات من العدو للعودة إلى الطاولة الناقورة.
– إراحة المفاوض اللبناني وتعزيز الأوراق بين يديه ونقله من حالة التراخي إلى المناورة المستندة إلى مصادر قوة.
– تهشيل الشركات العائمة على وجه الماء و تهديد استمرارية أخرى لزّمها العدو، ودفعها إلى تهديد تل أبيب بوقف أعمالها في حال لم تسوي الأوضاع مع بيروت، خشيةً من تكبد الخسائر.
إذاً، نحن اللبنانيون نمتلك أوراق قوة عديدة، لكن ما الذي يحدث الآن؟ نذهب إلى وزير الخارجية الجديد للإستنجاد بالإدارة الاميركية ومحاولة إقناع السفيرة دوروثي شيا، لكي تُقنع إدارتها بالضغط على الجانب الإسرائيلي “المرتاح على وضعه” لكي يعود إلى الناقورة. وهنا الاسوأ، غمزت السفيرة الأميركية خلال زيارتها وزير الخارجية، من “قناة” وجود انقسام لبناني حول خرائط التفاوض، لافتةً إلى وجود تباينات داخلية تُرجمت وعوداً لمسؤولين أميركيين بطي صفحة النقطة 29، دون أن يُترجم ذلك على أرض الواقع. وهنا يجب التفتيش عن “خفافيش السفيرة” الذين يتعاطون مع هذا الملف مع جهات أجنبية وسفراء من خارج ما زوّد به الوفد المفاوض من توجيهات رسمية صادرة عن أعلى الهرم. وكيف يحقّ لهذه السفيرة الكلام عن تباين داخلي مستندةً الى كلام بعض الأشخاص الذين لا تهمّهم مصلحة لبنان. فإذا أرادت أن تعرف الموقف اللبناني فهناك جهة وحيدة تعرفها جيداً لتسأل عن هذا الموقف.
والمستغرب أيضاً أن يصدر إعلان عن الجانب الدبلوماسي اللبناني ممثلاً بوزارة الخارجية والمغتربين عن استعداده للعودة إلى طاولة المفاوضات، ما يوحي بأن الدولة اللبنانية هي من بادرت أساساً إلى عرقلة المفاوضات كما ردّد العدو مراراً، وليس الجانب الأميركي الذي رفض إمرار التعديلات اللبنانية مطالباً بالتزام بنود “الإتفاق الإطار” أو لا مفاوضات. الأسوأ أكثر أن يذهب العدو إلى المبادرة ورفع الشروط كمثل ما تردّد حول طلبه إلى الجانب اللبناني (عن طريق الوسيط) التزام “الإتفاق الإطار” والعودة إلى تبنّي الخط 24 كثمن!!!
والمُستغرب هل تمّت قراءة البنود الستة لاتفاق الإطار التي لا تنصّ أبداً على التفاوض ضمن مساحة ٨٦٠ كلم مربع كما يدّعي البعض ليتمّ اتهام الوفد المفاوض بخرق هذا الإتفاق؟
عملياً، يوحي المسار المتّبع حالياً كما وأن لبنان يُهرول خلف إعادة إحياء مسار المفاوضات غير المباشرة وبالتالي هو مستعد لتكبّد الاثمان أو أنه جاهز لتقديم تنازلات، ولو أن الوفد العسكري التقني المفاوض ثبّت حضوره وسقفه منذ مدة طويلة: حدود لبنان هو الخط ٢٩ و ليس ٢٣، أي خلافاً لما يقوله الأميركيون. بهذا المعنى، من سيتولى دفع الثمن؟
في الواقع، إن سوء إدارة الملف من الجانب السياسي اللبناني هو الذي وضع البلاد في هذا المأزق! بينما الوفد العسكري التقني يضغط على المراجع الرئاسية للإسراع في توقيع التعديلات على المرسوم 6433 وضمّه إحداثيات الحدود الجديدة، تستعيد السلطة السياسية همّتها في البيع والشراء مع الجانب الأميركي الراعي لمصالح العدو الإسرائيلي في البحر، دون أن يتّعظ بأن اعتماد هذا المسار هو الذي جنى على لبنان هذا العبء.
يقول قائل أنه لم تعد هناك أية قدرة اليوم على إيقاف الأعمال و التلزيمات الإسرائيلية ضمن الرقعة اللبنانية ولو أنجزت التعديلات على المرسوم 6433، يقابل ذلك كلامٌ آخر مختلف كلياً يدفع إلى ضرورة الإسراع في إنجاز الإعتراض وتقديمه فوراً وتثبيت الحق اللبناني ومسارعة الدبلوماسية اللبنانية إلى قيادة حملة موازية لكفّ يد العدو عن المنطقة، لكن هل ننجح في إبعاد الشركات عن حقوقنا؟
ببساطة نعم إن توفّرت النية وما دام أن الأمر “طازة” كما يُقال، وطالما أن في أيدينا الكثير من الأوراق كاتخاذ القرار بالإنسحاب من إتفاقية الإطار التي أسّست لبدء المفاوضات غير المباشرة في الناقورة (المتوقفة الآن) على قاعدة مفادها أن “الجانب الإسرائيلي انتهكها من خلال التلزيمات وبالتالي فإن الجانب اللبناني لم يعد ملزماً بها”، بالتوازي مع توقيع الحكومة للتعديلات على الـ6433 وإيداعها الأمم المتحدة، وإعادة إفتتاح “مباراة تلزيم” جديدة للبلوك رقم 9 لاختيار شركات بديلة عن تحالف الشركات الثلاث الخاضع للإملاء الاميركي.
مسارٌ من هذا القبيل سيدفع ليس بالجانب الإسرائيلي فقط إنما الأميركي أيضاً لتوسّل الجانب اللبناني العودة إلى طاولة البحث والتخلي عن الكثير من الفيتوات، وليس العكس.
الموضوع يحتاج إلى قرار شجاع، يبدأ اولاً من رأس الهرم عبر إنهاء حالة الغموض، والتخلي عن حالة الهلع التي تنتابنا من مغبّة إغضاب الاميركيين.