حزب الله أمام ديتليف ميليس – 2
“ليبانون ديبايت” – عبد الله قمح
لم تعد القضيّة بين حزب الله والقاضي طارق البيطار، مسألة “من سيقبع من!” في النتيجة القانون كفيل “بقبع” الجميع متى طُبّق. في الأفق نذر نزاع “شخصي”، ليس بفعل مواقف سابقة – متبادلة بين الطرفين أو تضارب في المصالح، إنما بسبب طريقة مقاربة المحقّق العدلي للأمور. تصوروا مثلاً أن يلجأ قاضي يتمتع بالصلاحية المطلقة إلى الإعلام ومن خلال إعلاميين للردّ على تهديد أتاه من طرف سياسي!
هنا مربض الفرس. لو توفّرت لدى بيطار الرغبة أو النية السليمة لمعالجة الموضوع، لكان طالب وبعد ما وصله من أطراف حديث، استدعاء وفيق صفا والإستماع إليه، ولاحقاً التدقيق في حقيقة ما وصله من كلام، وإن لم يأتِ فبإمكانه أن “يخرب الدني” وأن يقول مثلاً: حزب الله يُهدّدني ويرفض الحضور إلى القضاء، وسيجد كثراً إلى جانبه! لكن التصرف الذي اقترفه المحقق العدلي ينمّ عن خفّة وقلّة حيلة وربما دافع للإنتقام، وقد يبدو فعلاً مقصوداً وبدافع الرغبة لاستدراج مشكل أو أنه محاولة لـ”شوو أوف” مُعين أو لاستغلال حادثة بصرف النظر عن مدى صحتها.
في الواقع، لقد انحدر بيطار إلى مستوى رهيب من الشعبوية. بالنتيجة هو قاضٍ، أي أن “عصمة القانون” في يده، ويمكنه أن يتحرّك دون ضجيج وباحتمال استفادة مرتفع، وقد يقول البعض أنه لو مارس ذلك “عن ذكاء” لكان ورّط الحزب، حتى ولو كان ما نُسب إلى وفيق صفا أو ما نُقل إلى بيطار غير دقيق.
عملياً، الحزب لم يعتد إرسال رسائل من هذا النوع عبر صحافيين ومتى كان عنده أمر، يوجّهه على الملأ كما يفعل عادة الأمين العام السيّد حسن نصرالله، دون الحاجة إلى الدخول في متاهة طويلة عريضة توجع الرأس.
لكن وطالما أن الذي حصل قد حصل، فهذا يستدعي الإنتباه والإلتفات إلى عدة أمور، أولها الإرتياب المشروع من تصرفات القاضي نفسه والتي تدفع بحزب الله إلى التحرّك لإعادة تصويب المسار، وثانيها قلّة الأمانة التي باتت تعمّ المجالس الصحافية، ليس ذلك فقط، إنما منطق “الدسّ الرخيص” الذي بات يُستعمل للإيقاع بين الناس.
أساساً، لا مشكلة في ما قيل بالنسبة إلى بيطار. ثمة اعتقاد راسخ بأن هذه الخبرية كان يحتاج إليها وقد أتت إليه في هذا التوقيت على “شحمة وفطيرة”. هو في النتيجة مزروك وملاحق من قبل السياسيين، ويطمح إلى لعب دور الإعلام لحماية نفسه طبعًا، وقد أتته الحادثة مجاناً، فلماذا لا يستغلّها بوجه من لا يريده في موقع أو يعمل ضده، ولماذا لا يستخدمها في الإطار العام طالما أن الجو السياسي لا يميل لصالحه؟ إذاً الإرتياب يجوز هنا والمصلحة تجوز أيضاً والدافع موجود!
منذ فترة دخلت التحقيقات في انفجار المرفأ مساراً مختلفاً مع المحقق العدلي طارق بيطار. يسود في محيط الرجل الإرتياب، وهذا يظهر على محيط يُفترض أنه يقاسمه الرأي. هذا المحيط ينفر من كثرة دوران الصحافيين في العدلية إلى حدٍ باتت التبليغات تتم عبر الإعلام وليس من خلال الضابطة العدلية مثلاً.
ما فجّر البحصة بين “حزب الله” وبيطار ليس كلام الحاج وفيق صفا ، الذي يحتاج إلى تدقيق بصحته طالما أن من نقله بات يتقلّب بين جهة وأخرى، إنما الذي فجّرها هو طريقة مقاربة بيطار للأمور. نما الشك عند الحزب منذ فترة حيال أشياء تحدث وتستدعي الإنتباه، كمثل الزجّ بإسمه حول ملكية شحنة نيترات الأمونيوم التي انفجرت في المرفأ وسعي البعض إلى محاولة تأمين الأدلة ولو عن طريق التلفيق. جانبٌ آخر استدعى انتباه “حزب الله” وقد دشّنه الوزير السابق وئام وهاب حين تحدث عن “انهيار” حسن قريطم داخل السجن، ونقله عنه بأنه مستعدٌ لإعطاء أية إفادة ما أجاز للبعض أن يتدخّل لتزوير إفادته”. هذه مسألة لا يمكن أن تقطع عند الحزب طالما أنه يمتلك جواً معيناً ينذر بوجود محاولات لحرف التحقيقات عن مسارها. هذا يوحي إذاً بوجود مسار للفبركة، مرعيّ إجرائياً من قبل أكثر من طرف، هل من دور لبيطار أم لا؟ هذا متروك للتدقيق.
على هذا الأساس حضر وفيق صفا بصفته مسؤولاً للإرتباط والتنسيق قصر العدل نهار الإثنين الماضي بناءً على موعد مسبق للقاء رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود و المدعي العام التمييزي غسان عويدات. الرجل الذي يمثّل الحزب، لديه ارتياب مشروع، وجاء إلى الجهة القضائية المعنية كي يفصح عنه وليس ليمارس فائض قوة، ولكي يضع النقاط على الحروف ويستعرض ما في حوزة الحزب من معطيات حول خروج التحقيقات عن مسارها. يجوز القول في هذا السياق أن هناك رغبة لدى البعض في إقحام “حزب الله” بقضية المرفأ، وهناك عدة مؤشرات بدأت توحي بذلك منذ مدة ، من بينها تلفيق شهود زور عبر الإعلام أشاروا وتحدثوا عن وجود فرضيات لم يتبيّن بعد مدى دقّتها، وقضية آل الصقر ونيترات الأمونيوم المعثور عليها في البقاع والمدعومة باعترافات على نية توريط “الحزب” بها!
إذاً نحن أمام إستغلال إعلامي واضح، وتعد “حادثة وفيق صفا” بيدقاً في السياق عينه، اوحى بذلك منسوب الضخّ الإعلامي الذي انطوت عليه الحادثة، وهذا يندرج بطبيعة الحال ضمن السياق عينه: تسييس التحقيقات كمقدمة لتأمين أجواء لاتهام “حزب الله”، وهو مسار بوشر بتنفيذه في الشارع ثم انتقل عبر الإعلام سواء من خلال الشاشات أو الحملات التي تُخاض عبر مواقع التواصل وغيرها.
بناءً عليه، أقلّ المتوقع أن يرتاب الحزب ويرسل مسؤوله للإرتباط إلى قصر العدل لمعاينة ما يحصل، وطالما أن الأمور على هذا النحو، إذاً باتت مسألة مواجهة شخصية لم تعف بيطار من القيام بهجمة مرتدّة على شكل الردّ الذي تبناه على رسالة وفيق صفا المفترضة.
لا ريب أن الاجواء الراهنة توحي بشبه إلى حدٍ ما مع الأجواء التي سادت عام 2005. حينها، كان لبنان أمام قطوع وعند كوع وكان يجري ترتيب الوضع الإقليمي بدقة وكان قد تم إخراج العراق من المعادلة وبوشر بمحاصرة سوريا وبالتالي المقاومة. حضر وزير الخارجية الأميركي حينها كولن باول إلى دمشق مطالباً برأس “حزب الله”. رفض بشار الأسد، وكان الثمن في لبنان مع انقلاب التوجه الأميركي من مهادن للوجود السوري إلى رافض له.. تطورت الأمور وحصل ما حصل وصولاً لاغتيال الرئيس رفيق الحريري. كانت الدماء على الأرض، ودخل التدويل على المسار. ساد التخبّط لجنة التحقيق الدولية التي كُلّفت بالتحقيق في اغتيال الحريري، إلى أن وصلت في النتيجة إلى تكليف أحد أكثر القضاة المثيرين للجدل، ديتليف ميليس. حينذاك، ظهر مسارٌ جديد يستند على شهود الزور وتلفيق الأحداث والإتهامات والإتصالات، لتحميل الحزب المسؤولية.
عام ٢٠٢١ يعود المشهد تقريباً ولو بشكل مغاير: إننا أمام قطوع أيضاً والحصار سائد وموجود ورأس “حزب الله” ما زال مطلوباً وبقوة هذه المرة، وسوريا منتصرة ومحاصرة وغير مرغوب فيها، وهناك انفجار المرفأ الذي يستثمر في مجال الإقتصاص من الحزب ، وثمة قضاء محلي وليس دولي يُعيد تكرار التاريخ، والتاريخ يتكرر عادةً. هل من أحقية للإرتياب؟ نعم طبعاً، طالما أن الشبهات بدأت تحوم والقضاء في سباتٍ عميق، يغرق في أحضان الإعلام…