العمالة الجنسية: كيف نلغي عملاً من دون الاعتراف به؟
نورهان شرف الدين – صحافية لبنانية
كل “التهم” التي يرمى بها العمل الجنسي لا علاقة لها بالعمل الجنسي، إذ تطبق على سائر المهن، فالعمل الجنسي، كسائر المهن، يمارسه العامل من أجل المردود المالي.
العمل هو أحد أهم أسباب العيش. لكنه، في أحيان كثيرة، لا يفلح في تأمين حياة كريمة. وفي أحيان أخرى، يؤمن العمل حياة، إنما ينظر إليه كعمل مكروه، دنيء. وقد يحدث أن يقدم أحد خدمة ومع ذلك تسقط عنه صفة “عامل”.
مفهوم العمل شائك، على رغم من قدم المصطلح واستعماله اليومي لاختلاط مفهومه بمفهوم المردود المادي. مثلاً تأجير محلات والعيش من مردود الإيجار ليس عملاً، لكنه قانوني ومقبول اجتماعياً، حتى نكاد نقول إنه أخلاقي، مع أن المالك يكاد لا يفعل شيئاً ولا يقوم بعمل يستحق عليه أجراً او بدل أتعاب. لكن إذا أخذنا مثلاً آخر عن عاملات الجنس، وهنا لا أتحدث عن الدعارة القسرية والاتجار الجنسي، فالنظرة الاجتماعية التي تعتبر تكديس أرباح من محلات موروثة ضرباً من الحنكة وعملاً مشرفاً، هي نفسها تنظر بدونية إلى العمل الجنسي وتنكر أصلاً أنه عمل، مطالبة بتجريمه.
هذه النظرة تنبع من الخلط بين العمل الجنسي الفردي والاتجار الجنسي الذي يتخطى التجارة، ليدخل سيرورة التصنيع فيكون العامل فيه جزءاً من شبكة تستقطب العمال والعاملات وتدخلهم في سيرورة التصنيع بالعنف والابتزاز والإكراه. مع أن الأخير يتجلى بوضوح بالعمل الجنسي، فالدافع الرئيسي لولوج هذا العالم يكون الحاجة المادية للطبقة العاملة، التي تكون معظم الأعمال فيها غير اختيارية.
لا أحد يختار تنظيف منازل الآخرين أو العمل في جمع القمامة أو في منجم أو أي من الأعمال الأخرى التي تدر الحد الأدنى للأجور أو ما هو أقل منه. يلجأ كثيرون في الطبقات المهمشة في دول ومناطق مختلفة، إلى عالم العمل الجنسي لأن الجنس كفعل فيه متعة في أحيان كثيرة، على عكس سائر أعمال الطبقة العاملة، ولأنه يدر مدخولاً أكبر يسد الحاجة الاقتصادية في وقت أقل فيعطي فرصة للعامل باختيار الزبون بعدما كدس بعض الأرباح. كما يختار العمل الجنسي لأنه لا يحتاج الى رأسمال سوى الوقوف في الشارع ولا إلى الكفاءة أو الوساطة.
يتجاهل المجتمع هذه الأسباب ويستعيض عنها بأسباب قد تكون محقة أحياناً، لكنها تكرس النظرة الدونية تجاه العمل الجنسي كربط أسباب العمل بالتعرض للتحرش أو معاناة العامل من مرض نفسي أو عدم تفريقه بين الصح والخطأ. لكن المفارقة أن كل “سبب” يطبق على أعمال أخرى. مثلاً أحد هذه الأسباب هي استحالة توفير ظروف إنسانية للعاملات في هذا القطاع، بيد أنه لم تكن هناك محاولة لتحسين ظروف العاملين والعاملات في هذا القطاع، كقانون تجريم الإجهاض، لكن إذا رنونا عن كثب، نلاحظ أن عمال القطاعات الأخرى يعملون في ظروف لا إنسانية أيضاً، كالمستخدمين في معامل الشركات الضخمة، كـ”أمازون” مثلاً. حجة أخرى تعتبر هذا العمل استغلالاً، مع أن الاستغلال يمتد إلى دوام العامل الذي يعيش تحت خط الفقر أو العامل الذي يعمل وقتاً إضافياً بلا زيادة بالراتب. حجة ثالثة ترى أن العمل الجنسي نوع من أذية النفس، علماً أن جميع أنواع الأعمال الشاقة كالبناء أو الأعمال التي تفرض على عامليها الجلوس في مكتب طوال اليوم أو الأعمال التي تضمن ساعات طويلة من القيادة، مؤذية للعاملين بها، إذ تفرض عليهم آثاراً جسدية لا بد منها لإتمام العمل.
إلا أن النقابات المنظمة لهذه الأعمال تعوض على المنتسب إليها بالضمانات الاجتماعية أو تعويض نهاية الخدمة أو بدل نقل، وهي تحفيزات يحرم منها عامل الجنس، لأن الدولة تأبى الاعتراف بعمله وتنظيمه ضمن أطر النقابات والسماح للمنتسب بالمطالبة بحقوقه. بل تجرمه جاعلة العمل أصعب ما يدعم حجة استحالة تنظيم العمل بظروف إنسانية. والتجريم إما يكون بمعاقبة العامل، وهو النموذج الأقدم والأكثر انتشاراً في العالم العربي، أو بمعاقبة الطالب وهو النموذج الاسكندنافي بالعقاب. لكن في الحالتين، تعجز الدولة عن إيقاف العمل أو تقديم بديل للعمال لأن السبب الرئيسي للعمل، أي الحاجة الاقتصادية، والسبب الرئيسي للطلب، أي الحاجة الجنسية، لا مجال لإلغائهما عبر التجريم بل تصبحان أكثر إلحاحاً عندما يجعل التجريم الخدمة نادرة. الدولة لم تكن قادرة على القضاء نهائياً على العمل الجنسي. وإن استطاعت، فذلك سيعني ارتفاعاً بمستوى الفقر وتدنياً بالناتج المحلي الإجمالي، وربما انخفاضاً في مردود السياحة. مثلاً حكومة تايلاند روجت لسياحة الجنس في بلدها بعدما در القطاع مدخولاً هائلاً على خزينة الدولة بإعلان ذكوري “الفاكهة الوحيدة الأكثر لذة من الدوريان هي نساء تايلاند”، بما يجعل النساء والفاكهة التايلندية المشهورة سواسية.
يظهر الإعلان الذكورية في خدمة رأس المال. لكن لليسار أيضاً حصة من الاتهامات إذ يتهم بدعم السوق الحرة فقط بحال العمل الجنسي. لكن الحقيقة هي أن عامل الجنس جزء لا يتجزأ من الطبقة العاملة فإذا نظرنا بتجرد لعمله، يصبح كأي عمل آخر يمارس لإشباع حاجة مادية تحت ظروف عمل لا إنسانية، تتحسن عندما يكون العمل قانونياً. العاملات المنزليات الأجنبيات في دول الخليج لا يستطعن تحسين ظروف عملهن بسبب غياب نقابة جامعة لهن لكن بتأسيس النقابة ستتمكنّ من المطالبة بشروط عمل أفضل وضمان حقوقهن عبر التنظيم. ناهيك بذلك، الرأسمالية لن تنتهي بتجريم العمل الجنسي بل إن التجريم يعقّد ظروف العمال، إذا انخرطوا بالاتجار الجنسي ليحظوا بتغطية سياسية. هكذا يخدم التجريم رأس المال عبر هرولة العاملين إلى حماية لا يمكن التنعم بها بلا نقابة.
كما يعطي التجريم حجة رابعة لمهاجمة العمل الجنسي باعتباره غير منظم، إذ تمنع الدولة تنظيمه من جهة، وتتهمه بعدم التنظيم من جهة أخرى. غرض التنظيم ليس مجرد التفنّن باللغة لحث الآخرين على تقبل القطاع أو إضفاء شعور بالمسؤولية على النشاط الاقتصادي أو تقريب الفكرة لأذهان الرافضين لها كما يزعم البعض. بل هدفه جعل العمل مادياً أو مرئياً، كمحاولات عدة لدفع المجتمع للاعتراف بالعمل المنزلي كعمل، وهي الطريقة الوحيدة ليكون موجوداً في ظل الرأسمالية، فيحدد العامل شروطه الخاصة ويكسر احتكار المافيات وشبكات الدعارة للقطاع، إذ يمسي قانونياً ومنظماً وقابلاً لسن شروط عمل إنسانية أو الامتناع عن القيام بالعمل، في حال فقدان أحد هذه الشروط أو الحث على تعديل قوانين لحماية العاملين والعاملات في القطاع الذي يضم هويات جندرية كثيرة.
منع تشكيل النقابات نوع من إقصاء عامل الجنس من عمله. يتجلى هذا الإقصاء بأشكال عدة، منها منع عامل الجنس من التعبير عن رأيه حول عمله على وسائل الإعلام أو خلق مساحة تدين العمل الجنسي والعاملين فيه، في الواقع الافتراضي عبر تشبيه “شرف” عاملات الجنس (بالنسبة إلى هؤلاء المستخدمين تقتصر فئة عاملي الجنس على النساء) بـ”شرف” السياسيين الفاسدين أو عبر تسليع العمل. بحيث يمسي العمل سلعة يحدد سعرها وفقاً لأولويات السوق، فيرتفع في الموسم السياحي وينخفض في المواسم الأخرى، كما ينخفض مع تدني سعر الصرف وبداية تفشي الوباء التاجي الذي فرض إغلاقاً تاماً. هذا التسليع ينظر إلى العامل كسلعة وهي حجة أخرى تستخدم ضد العمل الجنسي بيد أن تسليع العمل يتسلل إلى الأعمال الأخرى. فينتج العمال في مصانع Zara ما لا يسمح راتبهم بشرائه، بينما ينظر إلى عملهم كمجرد سلعة بدلاً من النظر إليه كطاقة بإمكانها تحويل المواد الأولية من أزرار وخيوط وجلد إلى منتوج نهائي لا يتكون من أي “سلعة” أخرى.
وبسبب هذا التسليع والظروف اللانهائية التي تحول دون توفر السلع بشكل دائم، يلجأ طالبها بحال غياب “السلعة” إلى استخدام العنف بغية الحصول عليها. كمشهد إطلاق النار على محطات الوقود عند إيقاف التعبئة أو في الصيدليات عندما لا يملك الشاري المال الوافي للحصول على الدواء أو في الأسواق التجارية، عندما يلجأ المتبضعون إلى العنف للحصول على مطلبهم المحدود. تتكرر هذه المشاهد مع عامل الجنس إذ قد يتعرض للعنف الجسدي، في حال تمنعه عن العمل، أو للعنف الاقتصادي إذ يطلب أجراً أعلى، إضافة إلى العنف الجنسي من أكثر من زبون. لكننا نجد ارتباطاً وثيقاً بين العنف وسائر الأنشطة الاقتصادية للطبقة المستغلة، إذ يكوّن العنف جزءاً من الاستغلال والاستضعاف اللذين يلخصان العلاقة المسلعة بين رب العمل أو المدير والعمال في أي مؤسسة اقتصادية. ما يجعل العمل الجنسي نوعاً من الاستغلال، والعنف ليس متعلقاً بالعمل الجنسي وحسب، با أيضاً بالنظام الاقتصادي وموقع عامل الجنس في هذا النظام.
كل “التهم” التي يرمى بها العمل الجنسي لا علاقة لها بالعمل الجنسي، إذ تطبق على سائر المهن، فالعمل الجنسي، كسائر المهن، يمارسه العامل من أجل المردود المالي.
لكن العمل الجنسي يختلف لكونه يتقولب ضمن تابو اجتماعي مناف للأديان ومروّج على أنه دنيء وحقير في التاريخ. فلا نجد إطلاقاً بطل فيلم او مسلسل ينقذ العالم في وضح النهار ويمارس عمله الجنسي في الليل. ناهيك بنظرة السياسيين الاستحقارية تجاه العمل الجنسي، ونظرة القضاء التأديبية الإصلاحية تجاهه التي تولد المنطلق الذكوري الذي يتعامل به المجتمع مع عامل الجنس.
تهرول الحكومات لتطبيق سياسات الحد من اللجوء وزيادة الضرائب غير المباشرة وتتفنن بنظام الكفالة بينما تبقى سياسات دعم الأكثر فقراً في آخر لائحة أولوياتها، خالقة عمال جنس لتجلدهم في ما بعد، مانعة إياه من الانتظام في نقابة قد تكون الوسيلة الوحيدة لإلغاء الأعمال الجنسية، إذ لا يمكن أن نلغي عملاً من دون الاعتراف به.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع