الكاتب: علي الزعتري
الفوضى سلاح، لهذا يدل عنوان المقال على الفعل المُتَعَّمَدْ لجعلِ الفوضى سِمَةَ حياةٍ لبعض الشعوب، والعرب أولهم. الفوضى الخلاَّقة الآتية عبر الحدود و الفوضى المُرَّتبة الشخصية و الفوضى المُتَعمَدَّة بالداخل، أو قل الفوضى الإختيارية والفوضى الغازية، أسلحةٌ بيد الإنسان يُدَّوِرُها حسب الحاجة. المراهقُ بغرفته يخلقُ فوضى مرتبة يعرفُ تفاصيلها بدقة تفوت من يراقبه. الصنايعي بمحله يخلق فوضى متعمدة تزيغ بصر منافسيه عن عمله و كسبه. السياسي، مثل كوندوليزا رايس، يعتمد سياسة فوضى، أسمتها رايس خلاقة، تخلط الشعوب ببعضها و تحركهم عبر الحدود وتُوقِعُهم و الحكومات بأزماتٍ لا طائلَ لهم بها من أجل أن تجني دولٌ صُغْرى وعُظمى مكاسب اقتصادية و سياسية. والسياسي الأصغر يخلق الفوضى بمحيطه المحلي فيحتفظ بأوراق تمكنه من السيطرة وبسط النفوذ عبر خلطها و “تفويضها” ليعمييَّ الأبصار عن سياساته. مسرح الفوضى هو مسرح الحياة و قصصها هي ما يخطر على البال.
حين تكون الفوضى سائدة في المجتمعات فهي عادةً ما تكون ناجمةً عن جهلٍ ذاتي أو تجهيلٍ مُمارَسْ على العامة من الناس و تكون كذلك لفرط الأنانية والنرجسية عند الأسبغِ حظاً. الإنسان الفوضوي جاهلا، مُجَهَّلاً أم واعياً يكتسح حقوق غيره بما يثيره من لغط الهمجية أو النفوذ فتنفتح له الدروب لا حبا و لكن كرها. إنه عنوان الظلم و عديد المشاكل له ولمن حوله أكثر مما هو عنوان العدل و الحلول و المشاركةً الإيجابية. و قد قالوا أن الفوضوي ذكيٌ بالفطرة، و قد يكون. لكنه فوضويٌ ولا أظن العلماء والمبتكرين من أتباع الفوضى.
ثم أن الكون من حولنا منظم أدق التنظيم فهو يتحرك بالنسق المحسوب بين أرض و قمر و شمس كلها ترسم لنا بإذن الله منامنا و معاشنا و مناسكنا بالدقيقة و الثانية و بالحركة و الاتجاه. لم نُخلقْ عبثاً و جئنا للحياة و نغادرها من خلال أطوارٍ موصوفة غير عشوائية أو فوضوية. بل أنه حتى الحيوان في بيئته و دون تدخل الإنسان يتتبع نظاما واضحا للبقاء لا تشوبه الفوضى. إذاً الفوضى السائدة بين الأفراد هي بالأحرى عادات و في الحكومات و بين الدول هي سياسات، وهي فوضى مُكتسبة لا تُهذبها ديانةٌ ولا تربيةٌ ولا مُثُلَ عُليا، بل تستغرق صاحبها لبيان أنها الأسلوب الأصح و الأجدى، عبثاً. ما من فوضى في الحياة أنتجت ثِماراً بقدرِ ما تنتج دماراً. غير أن ان دمار الفوضى بالغزو لا تطال الغازي إلا بعد حين.
لهذا أنظرُ بعميقِ القلق بمجتمعاتنا العربية التي تُغْرَقُ بطوفان من الفوضى المكتسبة و الغازية تمس الفرد و الأسرة و الحارة و المدينة و تخلق نفوساً لا تُبالي إلا بدوام متعة؛ سواء كانت المتعة سببا للسرور أم سببا للتدمير. الفسادُ من الفوضى؛ و بطء دورة العدالة فوضى؛ و التجاوز على الأخلاق و المكارم و استباحتها فوضى؛ تدمير التعليم فوضى؛ تعجيز و تفقير المواطن فوضى؛ كثرة الفتاوى ممن لا يقدر و بمواضيع تافهةٍ فوضى؛ تمجيد الجهلة على العلماء فوضى؛ موتُ النفس بسبب الجهالة الطبية فوضى. لا بُدَ من أن نسأل عن السبب الذي يأخذنا لتبني الفوضى كأسلوب حياة باختيارنا أو رغماً عن إرادتنا. و لماذا تتسيد الفوضى دول الجنوب و تتدارى عند دول الشمال؟
إن الفوضى تعم دواخل بلادنا من المحيط للخليج، إلا من قِلَّةٍ من الدول ربما أبرزها الإمارات التي تبني مجتمعاً عالميا و مختِلفاً و عُمان التي تحافظ على نموذجٍ متوازن محلي النكهة لدرجةٍ كبيرة. و سواء كانت الدولة تُعاني حرباً مثل اليمن و سوريا أم هي مستقرة نسبياً مثل المغرب و الأردن و قطر و الكويت و مصر أو دولٌ تمر بدوامَّاتٍ من الاختلالات مثل تونس و لبنان و السودان و العراق و البحرين و الجزائر و حتى السعودية أو دولٌ ممزقة مثل ليبيا و الصومال و فلسطين أو دولٌ طرفية مثل موريتانيا و جيبوتي و جزر القمر إلا أنها كلها تعيش فوضى الدولة و الإنسان بملئ إرادتهم أو مُرغمين من الخارج عليها. لا أنفي محاولات النجاة و اجتراح سبل الخروج التي غالبا ما تصطدم بما يدفعها للوراء لتعود الدولة لتخلق فوضى مضادة أو تنهزم أمام الفوضى. مثال بسيط: نمو سكاني يفوق القدرة لإسكان الملايين ببيئة نظيفة ينتج فوضى العشوائيات.
نحن ضحيةٌ لسياسةٍ ممنهجةْ لترسيخِ الفوضى. خذ الفوضى الخلاَّقة التي سمعنا بها و نراها اليوم حروباً و حصاراً لشعوبنا و ليس بها شيئٌ خلاَّقٌ إلا قتلنا. و خذ الحركة النشيطة لتمييع الإنتماء و الأخلاق و بث السفاسف و تشجيعها و ترويجها، و ستتبعها فوضى ذوبان الأخلاق و استمراء الحرام. و خذ السياسات الإقتصادية التي تفرز بطالة الشباب وزيادة الفقر. ألن تنتج فوضى؟ هي أنتجتها فعلا فيما سُمِيَّ بالربيع العربي الذي بدوره أنتج فوضى عارمة و تراجعا ليس له مثيل و من ثم خنوعا للتطبيع.
من الدرجة الأولى في المجتمع، من الإنسان الذي يشعر بالفوضى و يعاني منها و قد يخلقها في حياةِ يومه، للدولة التي تعيشها و حتماً تخلقها من خلال سياسات و قرارات تجعل المواطن ضحيتها، أو تقع هي ضحيةً لها عُنوةً بفرض سياساتٍ عليها و بغزواتٍ من أعداءها، تُشَّكلُ الفوضى اليوم واقعا ماثلا متشائما بمنطقتنا لا يحمل الخير للقادم من الأيام العربية. ألا يستدعي هذا الحال صَحْوةً من قمةِ الهرمِ لقاعدتهِ؟
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع