كريستال خوري -أساس ميديا
يُفترض من حيث المبدأ أن يقود التحقيق العدلي، الذي يجريه القاضي طارق البيطار في قضية تفجير مرفأ بيروت، إلى الحقيقة، فيُبلسم بعضاً من جراح أهالي الضحايا ولو أنّه لا شيء يعوّض خسارتهم. والمقصود بالحقيقة معرفة مَن أتى بباخرة الموت إلى مرفأ بيروت، ومَن قام بالتفجير، وهل صار الانفجار بقصد القتل أو هو نتيجة إهمال إداري؟
لكن يبدو أنّ أداء المحقّق العدلي، المزنّر بالاستنسابية وبكثير من علامات الاستفهام، يأخذ الحقيقة إلى متاهات السياسة وزواريبها، ويضيِّع الأمل بالوصول إلى وقائع دامغة.
أكثر من ذلك، لا يرسل القاضي أيّ إشارة من شأنها أن تثبت أنّه بصدد البحث عن حقيقة. بل يبدو واضحاً أنّه يبحث عن كبش محرقة في سبيل أن يجعل منه بطلاً. ولهذا إصراره على الشقّ الإداري من الملفّ وتركيزه على بعض الوجوه السياسية لاعتقاده أنّهم يشكّلون الحلقة الأضعف في الملفّ. وهذا ما يدفع بهؤلاء إلى “الارتياب المشروع” من سلوكه، والشكوى من تجاوزه الدستور بمادّتيْه 70 و71 الواضحتين في تحديد المرجعيّة القضائية المختصّة في ملاحقة الرؤساء والوزراء.
وبهذا المعنى، فإنّ إصرار المحقّق العدلي على ضرب الدستور، مقابل تمسّك المُدَّعى عليهم بمرجعية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، يزيد من حدّة الانقسام العمودي الذي يسبّبه مسار التحقيق العدلي، ويصبّ الزيت على نار التشنّج الداخلي على خلفيّة المعركة السياسية المفتوحة، التي تأخذ لسوء الحظّ طابعاً مذهبياً، بعدما قرّرت القوى المسيحية القفز سريعاً إلى ضفّة رفع الحصانات النيابية لكونها مهجوسة بهاجس الانتخابات النيابية والمزايدات الشعبية.
بعدئذٍ سارع القاضي البيطار إلى تحديد مواعيد لجلسات استجواب النواب – الوزراء السابقين، أي نهاد المشنوق، علي حسن خليل، وغازي زعيتر، فور نيل حكومة نجيب ميقاتي الثقة وخروج البرلمان من الدورتين العادية والاستثنائية. وخصّص موعداً جديداً لاستجواب رئيس الحكومة السابق حسان دياب (قرّر المدّعي العامّ العدلي القاضي غسان خوري تبليغه بقرار إحضاره لصقاً عبر مباشِر من المحكمة). وفيما كان خطّ المراسلات ينشط بين المحقّق العدلي والنيابة العامّة التمييزية ومحكمة التمييز الجزائية ومجلس النواب حول إشكاليّة الصلاحيّة والجهة المُخوّلة حلّ الخلافات في الصلاحيّة بين المجلس العدلي المنصوص عليه في القانون، والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء المنصوص عليه في الدستور، سجّلت الساعات الأخيرة التطوّرات الآتية:
– تقدّم الوزير السابق يوسف فنيانوس بدعوى “الارتياب المشروع، وذلك حرصاً على حسن سير التحقيق والوصول إلى الحقيقة المرجوّة”، مشدّداً في بيان له على أنّ “السلوك الشاذّ والردود والاجتهادات والانتقائية والكيل بمكيالين، وكلّ أنواع المظالم، لا تغيِّر الحقائق والوقائع”، معتبراً أنّ “تحميله الجريمة وإصدار مذكّرة توقيف بحقّه خطوة غير مشروعة وظالمة، إذ إنّ المجلس العدلي أصلاً ليس صاحب الصلاحيّة”، لافتاً إلى أنّ “الطريق التي يسلكها القاضي طارق البيطار لن توصل إلى الحقيقة”.
– لا تزال تتفاعل التسريبات حول تهديدات تلقّاها المحقّق العدلي من “حزب الله” عبر رئيس وحدة التنسيق والارتباط وفيق صفا. وقد خرجت أمس تسريبات بأنّه أجاب مدّعي عام التمييز بتأكيد تعرّضه للتهديد. وذلك بعدما استدعاه وزير العدل القاضي هنري الخوري لسؤاله. ثمّ أعلن أنّه سيتابع هذا الأمر مع المراجع القضائية المختصّة كي يُبنى على الشيء مقتضاه.
– الكلام المتداوَل حول ضغط يُمارَس على رئيس مجلس إدارة المرفأ حسن قريطم لتغيير إفادته. إذ يتردّد أنّ هناك مَن طلب منه تبديل ما سبق أن أدلى به ليشير إلى علاقة “حزب الله” بملفّ النيترات مقابل مساعدته على إطلاق سراحه. وإذا ما صحّت هذه التسريبات فهذا يعني أنّ التحقيق في هذا الملفّ يأخذ أبعاداً سياسية حادّة مرشّحة للازدياد مع دخول البلاد مدار الانتخابات النيابية على نحو يعيد تكرار مشهديّة الانقسام العمودي الذي شهدته الساحة الداخلية بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005.
– لا يزال فريق الدفاع الخاصّ برئيس الحكومة السابق دياب في طور دراسة كلّ الخيارات المتاحة أمامه قبل تحديد طبيعة الردّ على إجراءات المحقّق العدلي، وفي مقدّمها دعوى الردّ التي ستكون مبنية على جواب النيابة العامّة التمييزية، كما بيّنه الكتاب الموجّه إلى مجلس النواب، الذي جاء فيه أنّها “تميل إلى اعتبار المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء بحسب الدستور هو المرجع الصالح”، ردّاً على البيطار الذي بنى صلاحيّته على قرار لمحكمة التمييز صادر في عام 2000 ميّز بينَ الجرائم الناتجة عن الوظيفة والجرائم المرتكبة من الوزراء.
– اختار النائب نهاد المشنوق منبر دار الفتوى التي سبق لها أن نبّهت من الاستنسابية والانتقائية في سلوك القضاء العدلي، ليعلن بشكل واضح أنّه سيتقدّم بدعوى ردّ في عدم صلاحيّة القضاء العدلي في ملاحقة الرؤساء والوزراء، وأنّه “غير معنيّ بأيّ إجراء آخر”. وهذا يعني أنّه، كما دياب وعلي حسن خليل وزعيتر، لن يحضر جلسات الاستجواب…
والنتيجة أنّ المواجهة الشاملة قد أُعلِنت بين المحقّق العدلي والمدّعى عليهم من السياسيّين، وذلك بعدما اتّهمه المشنوق بأنّه “يأتمر من الوزير السابق سليم جريصاتي”، لتنتقل بذلك المواجهة إلى مكان آخر مسيّس بالكامل كردّ فعل على السلوك المريب للمحقّق العدلي، إلى درجة أنّ المشنوق قال إنّه إذا أضاع جهاز أمن الدولة عنوان الرئيس دياب، فعنوانه هو دار الإفتاء بالزيدانية: “خلّيهم يجوا يشوفوا إذا فيهم يلزقوا لصقاً على الباب لتبليغ حداً أو إحضار حداً”!