ملفات حكومية متفجرة: الغاز والتعيينات
جوني منير-الجمهورية
“راحت السكرة وإجِت الفكرة”، هو المثل اللبناني الذي ينطبق فعلياً على واقع حكومة نجيب ميقاتي.
رئيس الحكومة الذي يدرك جيداً «العورات» الكثيرة الموجودة داخل التركيبة الحكومية، كان يأمل ربما في أن تتأخر بالظهور بعض الوقت لاستثمار الوقع الايجابي لولادة حكومة طال انتظارها وتطلبت اكثر من سنة. لكنّ المحاصصة المبنية على حسابات ضيقة لا بد من ان تنتج وزراء لا يتمتعون بالكفاية المطلوبة، فالتبعية والكفاية من الصعب جَمعهما في وزير واحد.
لذلك، استعجل بعض هؤلاء الوزراء في الكشف عن أنفسهم من خلال السقوط في اغراء الاعلام. وهو ما دفع ميقاتي الى التمني على الوزراء وقف الاطلالات الاعلامية واستبدالها بالانكباب على العمل، ولو من خلال عبارات ديبلوماسية، وهو الاسلوب الذي يشتهر به.
ولادة الحكومة أنتجَت صدمة ايجابية ولو بنسبة جزئية أدت الى تراجع سعر صرف الدولار الاميركي وانتاج حالة نفسية مساعدة، لكن هذا الواقع في حاجة لإنجازات كبيرة، ما تزال غير متوافرة حتى الساعة. لا بل فإنّ المواجهات لن تتأخر بالظهور، خصوصاً انّ الحسابات الانتخابية للاطراف الحزبية المشاركة في الحكومة ولو بطريقة غير مباشرة، هي التي تعلو فوق المصلحة العامة. في هذا الاساس هكذا تفكر الطبقة السياسية في لبنان، وفي الواقع لم يتغير شيئاً في هذه الذهنية، لا بل ازدادت شهية تحقيق المصلحة الخاصة خصوصاً بعد التحولات العميقة التي طاولت الشارع اللبناني.
وفي زيارته الاولى لباريس بعد تكليفه تشكيل الحكومة، يأمل ميقاتي التعجيل في تحقيق انجازات اقتصادية ومالية. قد يكون في بال الرجل محطة العام 1992 يوم دخل الرئيس رفيق الحريري الى السلطة في لبنان ليشكل رافعة للاقتصاد المنهار بعد الحربين المزلزلتين عامي 1989 و1990، وهو ما جعله لاحقاً رقماً صعباً في المعادلة اللبنانية وحتى الاقليمية، وزعيماً للشارع السني في لبنان.
من حق ميقاتي ان يستذكِر هذه المحطة، وان يحاول وفق طريقته تحقيق ما حققه رفيق الحريري يومها، ولو انّ الظروف لا تبدو متشابهة من نواحٍ عدة اساسية.
في باريس سيحضر على مائدة الغداء مؤتمر «سيدر» وامواله التي ضاعت آثارها في خضم الجدل حول الحصص الحكومية.
وفي باريس أيضاً ثمة مشاريع اقتصادية ومالية للبنان، كان البنك المركزي الاوروبي قد أنجز ملفاتها خلال الاشهر الماضية.
وفي باريس اسئلة حول البدء باستكشاف الغاز في بحر لبنان الجنوبي، ذلك ان شركة «توتال» لا تبدو حتى اللحظة مهتمة بهذا الموضوع قريباً. فالمعلومات تؤكد أن موازنة الشركة الفرنسية لعام 2022، والجاري وضع اللمسات الاخيرة عليها، لم تلحظ اي اموال مخصصة لاستكشاف البلوكين 9 و10. لا بل ان حضور الشركة في لبنان يقتصر على فريق اداري صغير، بعد ان جرى تسريح الفريق الفني الذي يهتم بأعمال التنقيب، والعودة عن ذلك لا يمكن ان تحصل بين ليلة وضحاها. فهنالك استئجار منصة التنقيب واعادة تشكيل الفريق الفني وامور لوجستية اخرى تتطلب استعدادات لا تقل عن 6 اشهر، هذا في حال اتخاذ القرار بالتنقيب.
هذا في وقت يستعد النائب جبران باسيل لتحضير الاجواء بغية التفاهم مع شركة «هاليبرتون» الاميركية وعلى قاعدة ان تباشر في عمليات التنقيب في المنطقة المتنازع عليها، على ان يجري وضع المردود المالي في صندوق مستقل الى حين البَت القضائي الدولي بالنتائج. وبالتالي، تقسيم اموال الصندوق وفق حقوق النتيجة القضائية. هذا السيناريو ترحّب به الولايات المتحدة الاميركية لا بل تتمناه، لكن هنالك من يرسم علامات الاستفهام حول موقف الثنائي الشيعي، خصوصاً ان إشارات مُسبقة جاءت سلبية وابدت خشيتها من ان يتحول «الحوار المالي» الى ما هو ابعد واعمق وسط ظروف اقليمية تدفع في اتجاه التطبيع، ومعه فهي ترى ان الدفع في اتجاه الاعلان عن تلزيم اسرائيل لشركة هاليبرتون في المنطقة المتنازع عليها قد يكون الهدف منه دفع لبنان الى هذا المسار.
لا بد ان يكون ميقاتي قد اجرى حواراً معمّقاً مع رئيس الجمهورية ومع باسيل حول هذا الملف. المشكلة التي سيواجهها في باريس هي في حدة الخلاف الاميركي ـ الفرنسي الذي استجد أخيراً. وبالتالي، فإن ما كان يعوّل عليه من خلال الضغط او «المونة» التي كانت لإيمانويل ماكرون على ادارة جو بايدن، اصبح صعباً جداً في هذه المرحلة. لكن بعض المتفائلين يأملون العكس، بحيث يشكل الملف اللبناني باب إرضاءٍ اميركي لباريس. لكن هل من الواقعية الاعتبار ان ملف لبنان هو تعويض جدي للصفعة الاقتصادية القاسية التي تلقتها باريس؟ لكن حكومة ميقاتي ملزمة في الذهاب باتجاه «الربط» مع صندوق النقد الدولي والبدء بإقرار الاصلاحات التي طلبها خصوصاً في المجالات التي تعتبر ملحة وضرورية واساسية.
هناك ملف آخر من المتوقع ان يُلهب المحاور السياسية في لبنان، وهو ملف التعيينات، فمن المنطقي الاعتقاد ان تفاهمات عدة واكبت مفاوضات الولادة الحكومية وبقيت طي الكتمان.
على سبيل المثال، من السذاجة الاعتقاد أن النقاش الطويل الذي دار حول حصة «الثلث المعطل»، انتهى بإقرار «ثلث مُستتر» من دون ان يترافق ذلك مع تفاهمات وضمانات حول اسباب التمسك بالثلث.
وقيل ان من هذه الاسباب التعيينات الكثيرة جدا في موسم التحضير للانتخابات وسط «النقمة» الواسعة لدى الاوساط الشعبية على اطراف الطبقة السياسية. واذا اضفنا الى ذلك ان هذه الطبقة السياسية لا تأبه للانهيارات المتلاحقة طوال فترة المراوحة في تأليف الحكومة ما ضاعَفَ مرات عدة حجم المآسي، فإن الاستنتاج البديهي أن هناك تفاهماً حصل على تحاصص التعيينات من منطلقات المصلحة الانتخابية، وهو ما يفسر الصفاء في العلاقات بين المسؤولين الكبار، أقله حتى الآن.
ومن هذه الزاوية ينظر البعض الى الاشتباك الذي ظهر بين «حزب الله» ومجلس القضاء الاعلى، ذلك انّ تعيينات من المفترض ان تتم على مستوى الشغور في اعضاء مجلس القضاء الاعلى. ويعتقد البعض ان الاكتفاء بملء الشغور لا قيمة فعلية له اذا لم يقترن ذلك بتعيين بديل عن رئيس مجلس القضاء الاعلى سهيل عبود. وبالتالي، فإنّ «تسريب» خبر اللقاء العاصف لعبود بمسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في «حزب الله» وفيق صفا، قد يكون هدفه طرح إشكالية بقاء عبود في موقعه. والمعروف ان هذا الامر هو مطلب دائم لباسيل، ولقد تزامَنَ مع ما سُرّب عن رسالة تحذير لقاضي التحقيق العدلي طارق البيطار الذي يستعد البعض لرفع دعوى ارتياب تمهيداً لِكَف يده.
لكنّ مروحة التفاهمات حول سلة تعيينات وفق مبدأ المحاصصة لا بد ان تكون شاملة، اي ان تحصل بالتوافق مع الرئيس نبيه بري والنائب السابق وليد جنبلاط. والسؤال هنا ماذا عن سعد الحريري؟
فجميع هؤلاء يتحضّرون ايضاً للانتخابات النيابية ولديهم حساباتهم الدقيقة في شوارعهم. مجلة «الفورين بوليسي» الاميركية تطرّقت الى الواقع اللبناني والحكومة الجديدة، واعتبرت انها لن تكون قادرة في الغالب على وضع حد للفوضى السياسية والازمات الاقتصادية والامنية التي يتخبط بها لبنان، وانّ أقصى ما يمكنها فعله هو تطبيق تعديلات تجميلية للمشكلات الخطيرة التي تعانيها البلاد. وشرحت المجلة الاميركية الواسعة الانتشار أنّ تشكيكها نابع من تقييمها لدولة تتحكم بها طغمة من الحكام الفاسدين. وتساءلت: «كيف يمكن لأولئك الذين تسبّبوا في خراب البلد ان تُسند اليهم مهمة إصلاحه؟».
إستنتاج «الفورين بوليسي» صحيح، لأنّ المشكلة هي في الطبقة السياسية وذهنية تعاملها وتغليبها مصالحها الخاصة على المصلحة العامة.