فجأة وبدون مقدمات تشي بأن هناك ازمة تلوح في الافق على خلفية الغاء استراليا لعقد شراء غواصات فرنسية، تتفجر أزمة بين فرنسا من جهة وكل من امريكا وبريطانيا ومعهما استراليا، ومن الواضح ان ردة الفعل الفرنسية والتي يعبر عنها وزير الخارجية الفرنسي تتجاوز القاموس السياسي في العلاقات الدبلوماسية باستخدام مفردات “الغدر والطعن بالظهر” لا بل والذهاب بعيدا برد فرنسي يتضمن اعادة النظر في دور ووضع فرنسا في حلف الناتو.
ان جوهر مرجعيات الازمة،ووفقا لما تعلنه الولايات المتحدة وفرنسا، ان امريكا انشأت هذا التحالف الجديد لمواجهة الصين، وان المواصفات الفنية للغواصات الفرنسية لا تحقق هدف الردع للصين في المنطقة، فيما المقاربة الفرنسية لم تبد اعتراضا على مواجهة الصين، وحصرت الأزمة بحسابات الربح والخسارة والتجارة، لا سيما وأن حجم اتفاق تزويد استراليا بالغواصات الفرنسية يصل إلى ما يزيد على “30” مليار يورو.
محللون وخلايا تفكير استراتيجي، خاصة في الشرق الاوسط والمنطقة العربية سارعوا لاستنتاج ان هذه الازمة بداية لتفسخ التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، وأنها لا تحترم حلفائها، وتضاف لقائمة “هزائمها” في العالم، وهي مقاربة بحاجة لتدقيق وتحليل عميقين، فتباين المواقف الاستراتيجية تجاه القضايا الدولية بين فرنسا وأمريكا ليس جديدا، لم تكن ترجماته فقط بالموقف من احتلال العراق عام 2003، والتنافس الامريكي – الفرنسي في افريقيا، والتجارة البينية بين الاتحاد الأوروبي وامريكا، بالإضافة لتمويل حلف الناتو، وقضايا الشرق الأوسط وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وهي خلافات حول قضايا قائمة منذ إدارة اوباما، كانت ترجمتها اكثر وضوحا خلال إدارة “ترامب” بمواقفه من “التهديد” الذي مارسته تركيا لليونان والاتحاد الاوروبي، خاصة فرنسا، على خلفية التنقيب عن النفط في شرق المتوسط.
بريطانيا، في كل محطات الخلاف الامريكي مع الاوربيين، كانت الاقرب والاوثق بالنسبة للإدارات الامريكية، وقد تعززت عوامل توثيق التحالف بين واشنطن ولندن، بعد انسحاب الاخيرة من منظومة الاتحاد الاوروبي، وهو ما يفسر انضمامها الى التحالف مع واشنطن بقضية الغواصات، لا سيما وان هناك موقفا فرنسيا “بالحد الادنى ليس متطابقا مع مواقف أمريكا وبريطانيا” تجاه الصين وروسيا، تقترب منه او تبتعد قليلا ايضا المانيا.
مؤكد ان أزمة الغواصات لن تسهم في تفكيك التحالف الدولي الذي تقوده امريكا، بدلالة رد الفعل “البارد” الذي تمارسه أمريكا وبريطانيا تجاه الردود الفرنسية، في ظل إدراك ان الأزمة برمتها تسير وفقا لقانون “الوحدة والصراع” وجوهره الاتفاق على الأهداف الاستراتيجية الكبرى والصراع على التفاصيل والمكاسب مع الالتزام بشروط الوحدة، فمواجهة الصين ومعها روسيا ،وردعهما ضمن الاستراتيجية الفرنسية الدولية.
ورغم تعدد سيناريوهات مستقبل هذه الازمة، بما فيها استمرار تصاعد الخلافات و” الحرد” الفرنسي، إلا ان المرجح ان تبدأ الأزمة بالبرود خلال الايام القامة، لا سيما ان مرجعية الاحتجاج الفرنسي تجارية، و حسابات ربح وخسارة في الصناعات الحربية، وهو ما يطرح تساؤلات حول كيفيات تعويض فرنسا؟
ان السيناريو الأقرب للواقعية ان يتم تعويض فرنسا بتسهيل بيع غواصاتها لدول شرق اوسطية، في مقدمتها دول الخليج العربي، استنادا لجملة معطيات أبرزها: ان أمريكا ودولا أوروبية تواجه مشاكل مع برلماناتها في إتمام صفقات بيع أسلحة للخليج، سباق التسلح بين دول الخليج وايران، واحتمالات التصعيد في المنطقة، قطع الطريق على روسيا والصين لبيع اسلحة لدول الخليج، فوفقا لإحصائيات عسكرية فإن أيا من دول الخليج لا تمتلك غواصات، في حين ان إيران تمتلك غواصات ،وان كانت محدودة العدد وقديمة، إلا انها تعد مؤشرا على التفوق الايراني في مجال الغواصات.
فرنسا ، بهذه الأزمة ظهرت بمظهر المختلف والمتناقض مع أمريكا وبريطانيا، وهو سبب كاف لدى حكومات وشعوب عربية وإسلامية لتكون مصدرا لتعزيز منظوماتها الدفاعية، بديلا لروسيا والصين، خاصة وان صفقات اسلحة عديدة مع روسيا ، على رأسها صفقة صواريخ اس “400” ما زالت مصدر خلاف بين تركيا وواشنطن فيما لم تقابل صفقات طائرات “رافال” الفرنسية بأية اعتراضات من امريكا، وهو ما يتوقع حدوثه مع الغواصات الفرنسية في حال شرائها من دول الشرق الاوسط، الذي تنقص منظومات دفاعاته الغواصات، بعد ان جرب كل انواع الاسلحة التقليدية وغير التقليدية.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع