دمشق | شهدت العلاقات السورية – الأردنية، خلال العقود الأربعة المنصرمة، صدامات واختلالات عدّة، إلّا أنها ظلّت تتّسم بمرونة لافتة، ناجمة عن مجموعة من العوامل، أعادت وصلها في كلّ مرة، أبرزها الفهم المشترك للمصالح العميقة بين البلدين، ومدى تأثير استقرار كلّ بلد على استقرار الآخر ونموّه، الأمر الذي قد يفسّر تسارع الانفتاح الأردني أخيراً على سوريا والذي فرضته عوامل ميدانية وسياسية واقتصادية وحتى أمنية. مرّ الأردن، بداية الأحداث في سوريا عام 2011، في مرحلة شكّ لم تَدُم طويلاً، حيث انخرط بشكل تدريجي في ميدان العداء المباشر مع دمشق، فاحتضن الفصائل المعارِضة، وغرفة عمليات «الموك» التي تضمّ استخبارات دول عديدة تقودها الولايات المتحدة الأميركية لتقديم الدعم للفصائل المسلّحة، واعترف بـ«الائتلاف السوري» المعارض، إلّا أنه حافظ مع ذلك على وجود سفارته في دمشق، ونفى مراراً قطع العلاقات الدبلوماسية مع سوريا.
في عام 2017، ومع سيطرة الجيش السوري على مساحات واسعة من البلاد، وتوسّع دائرة النشاط الروسي هناك، وانكفاء الولايات المتحدة في المناطق النفطية شرقاً، وإلغاء الرئيس الأميركي حينها، دونالد ترامب، برامج دعم المعارضة السورية (موم في تركيا، وموك في الأردن، بعد فشلهما)، بدأت ملامح مرحلة جديدة ترتسم. وجاء عام 2018 ليفتح الباب أمام تلك المرحلة، بعد أن استعاد الجيش السوري السيطرة على الشريط الحدودي مع الأردن، ومعبر نصيب ـــ جابر الذي يمثّل بوابة الأردن إلى أوروبا وتركيا ولبنان، وبوابة سوريا إلى دول الخليج العربي، حيث بدأ الطرفان عقد مباحثات أفضت إلى إعادة فتح المعبر في شهر تشرين الأول من العام نفسه، تبعتها سلسلة من الزيارات المتبادلة بين غرف التجارة وبعض المسؤولين لتنشيط الجانب التجاري والعلاقات الاقتصادية، فيما بدأ العمل على إعادة تفعيل المنطقة الحرّة الأردنية ـــ السورية، وزيادة حجم التبادل التجاري الذي وصل العام الماضي إلى نحو 100 مليون دولار، فضلاً عن انطلاق التباحث في مشاريع إعادة الإعمار في سوريا، والتي تأمل شركات أردنية المشاركة فيها.
وإضافة إلى التغيّرات السياسية والعسكرية السورية التي ساهمت في إعادة توطيد العلاقات بين البلدين، لعبت بعض التغيّرات الداخلية في الأردن دوراً مهماً، بينها الموقف الذي اتّخذته القوى اليسارية والأحزاب القومية العربية التي وقفت مع دمشق، وتراجع دور الأحزاب الإسلامية وعلى رأسها «الإخوان المسلمون» على الساحة السياسية الأردنية، إضافة إلى الضغوط الاقتصادية الكبيرة التي تسبّبت بها موجات اللجوء السورية إلى الأردن، الذي يستضيف حوالى 650 ألف لاجئ سوري مسجّلين لدى الأمم المتحدة، تبلغ تكاليف تلبية احتياجاتهم نحو 2.4 مليار دولار، وفق وزير التخطيط الأردني، ناصر الشريدة. بالتوازي مع ذلك، جاء المشروع المصري لإحياء «خطّ الغاز العربي»، وما يتضمّنه من مكاسب كبيرة للأردن الذي يعاني اقتصادياً، ليدفع إلى تسريع وتيرة الانفتاح على سوريا، الأمر الذي ظهر بوضوح خلال زيارة الملك الأردني عبد الله الثاني الولايات المتحدة في شهر تموز الماضي، حيث تركّزت نقاشاته مع الرئيس الأميركي، جو بايدن، على سبل تمرير المشروع وتجاوز عقوبات «قيصر». كما ظهر عبد الله في تصريحات صحافية خلال الزيارة طالب خلالها بتغيير السياسة المتّبعة حيال سوريا، لتُتوَّج المساعي الأردنية بتوقيع اتفاقية تمرير الغاز المصري إلى لبنان، وإعادة إحياء «خطّ الغاز العربي»، الذي يأمل كلّ من مصر والأردن وسوريا في أن يتوسّع نشاطه ليشمل العراق.

بعد توقيع الاتفاقية، وبروز الضرورات الأمنية والعسكرية المشتركة بين سوريا والأردن لضمان المناطق الحدودية، وخطّ سير أنبوب الغاز، جاءت زيارة وزير الدفاع السوري الأردن بمثابة انتقال في طبيعة العلاقات إلى مرحلة أكثر انفتاحاً، خصوصاً أن البيان الذي صاحب الزيارة أشار إلى أنه «تمّ بحث علاقات التعاون بين الجيشين الشقيقين وآفاق تطويره»، الأمر الذي يفتح الباب أمام زيارات أخرى لمسؤولين رفيعي المستوى. والأكيد أن الانفتاح الأردني على سوريا، بغضّ النظر عن أسبابه الاقتصادية والأمنية، جاء بقبول أميركي قد يعطي الضوء الأخضر أيضاً لدول أخرى لرفع مستوى علاقاتها مع دمشق، خصوصاً أن هذه التطوّرات تأتي إثر فوز الرئيس بشّار الأسد في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بولاية جديدة، وبعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان والشكوك التي تحوم حول وجودها في سوريا، وفي أعقاب عودة العلاقات بين السعودية والإمارات من جهة وقطر من جهة أخرى، وهي دول لعبت دوراً كبيراً في الحرب السورية. كذلك، يترافق الانفتاح الأردني الحالي مع الجهود المصرية والجزائرية السياسية لتمهيد الأرض لعودة سوريا إلى «جامعة الدول العربية»، بعد نحو 10 سنوات على تجميد عضويتها، الأمر الذي باتت تعتبره الأمانة العامة للجامعة، عبر تصريحات مسؤوليها المستمرّة، ضرورياً في ضوء التطوّرات السياسية والميدانية والاقتصادية الأخيرة في المنطقة، والتي تلعب فيها سوريا دوراً محورياً. وعلى المقلب السوري، يبدو الموقف محافِظاً على هدوئه، إذ لا تبدي دمشق أيّ استعجال لعودة علاقاتها مع الدول العربية، وهو ما يتجلّى في تصريحات المسؤولين السوريين الذين شدّدوا على البعد الاقتصادي للانفتاح السوري ـــ الأردني، ولاتفاقية تمرير الغاز إلى لبنان، على رغم يقينهم بأن هذا الانفتاح الاقتصادي سيعقبه انفتاح سياسي يحصّن هذه المصالح الاقتصادية المشتركة.


أيّ دور لروسيا؟
بدا لافتاً، في المباحثات التي أجراها وزير الدفاع السوري علي أيوب في عمّان، عدم حضور وزير الدفاع الأردني الذي هو نفسه رئيس الوزراء بشر الخصاونة، ما فُهم على أنه محاولة للإيحاء بأن الزيارة مقتصرة على الجانب العسكري، وتحديداً ما يتعلّق منه بالجنوب السوري، بعد التوتّر الأخير في درعا والذي استطاعت دمشق احتواءه، في وقت التزمت عمّان، للمرّة الثانية (الأولى في معركة تحرير الجنوب 2018)، عدم فتح الحدود بذريعة وجود لاجئين. وتأتي زيارة أيوب إلى المملكة بعد زيارتَين للملك عبد الله الثاني والرئيس بشار الأسد إلى موسكو، وهو ما قد يشير إلى وجود دور روسي في ترتيب الزيارة، مدفوع بإرادة موسكو ترتيب أوراق الجنوب السوري، بما يكفل إبعاد مقاتلي «حزب الله» وإيران عن الحدود، وخصوصاً حدود الأرض المحتلة لمنع أيّ تصادم عسكري في المنطقة. وفي ردود الفعل، أثارت الزيارة حفيظة الكثيرين، سواءً من الإسلاميين أو الليبراليين، ولكن مع تعلّقها بالجيش الأردني، لم تخرج الأقلام المعتادة للنقد، إذ ما زال العديدون يخشون المساس بمؤسّسة الجيش، والتي تُعتبر مؤسسة محبوبة و«مقدّسة» عند الأردنيين.