الأخبار
تحوّل جيوسياسي عميق
في بعض الأحيان، يمكنك رؤية الصفائح التكتونية للجغرافيا السياسية وهي تتحرّك أمام عينيك. السويس في عام 1956، زيارة نيكسون الصين في عام 1972، وسقوط جدار برلين في عام 1989، من الأمثلة في الذاكرة الحيّة. كذلك، يوفّر الكشف، الأسبوع الماضي، عن اتفاقية دفاع ثلاثية بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، واحدة من تلك المناسبات النادرة (…). تُظهر الأصداء القوية لـ«أوكوس» ما يمثّله من تحوّل عميق. بالنسبة إلى أميركا، تُعدّ هذه الخطوة الأكثر دراماتيكية، حتى الآن، في تصميمها على مواجهة ما تعتبره تهديداً متزايداً من الصين، ولا سيما التحدّي البحري الذي تشكّله في المحيط الهادئ. لا تشارك أميركا جواهر تاج التكنولوجيا العسكرية – أي محطّة دفع الغواصات النووية – مع حليف للمرّة الثانية، خلال 63 عاماً (المرة الأخرى مع بريطانيا)، فقط، بل هي تشير، بقوّة، إلى التزامها الطويل الأمد بما تسمّيه «منطقة المحيطَين الهندي والهادئ الحرّة والمفتوحة».
العديد من دول المنطقة، التي لديها شعور بالتهديد من الصين، ترحّب بذلك. سيوفّر «أوكوس»، الآن، خلفية قوية للاجتماع الشخصي الأول بين زعماء الرباعية – أميركا وأستراليا والهند واليابان – في واشنطن العاصمة، في 24 أيلول. خلال الشهر الماضي، وسط انسحاب فوضوي من كابول، كان هناك حديث عن افتقار أميركا إلى القدرة على الحفاظ على القوّة، وفقدان الثقة بين حلفائها. مع كلّ الغضب في باريس، يغيّر «أوكوس» تلك الرواية. «الأهمية الأكبر لهذا، هو أن الولايات المتحدة تعزّز موقفها مع حلفائها، وأن حلفاءها يعزّزون موقفهم تجاه الولايات المتحدة»، يقول مايكل فوليلوف من معهد «لوي» في سيدني، مضيفاً: «لسوء الحظ، فإن فرنسا تعدّ أضراراً جانبية».
من جهة أستراليا، كان التخلّي عن عقد الغواصات مع فرنسا خطوة جريئة. على الرغم من أن الصفقة مع «Naval Group»، وهي شركة تملك الدولة الفرنسية الحصّة الأكبر فيها، قد واجهت صعوبات بشأن تكاليفها المتصاعدة وتأخيراتها (…)، إلّا أنها كانت واحداً من أكبر العقود في تاريخ أستراليا، وكان يُعتقد على نطاق واسع أنه أكبر من أن يتمّ التخلص منه. إن قيام الحكومة بذلك، على الرغم من احتمالية فرض عقوبات كبيرة، يعكس حجم رهانها على أميركا كحليف، وجاذبية تكنولوجيا الغواصات التي ستحصل عليها: أكثر قدرة على التخفّي، وذات مدى أطول بكثير من تلك التي تعمل بالديزل والكهرباء.
قد تكون بريطانيا الأقلّ أهمية بين ثُلاثيّ «أوكوس»؛ من المؤكّد أنه جرى التقليل من شأن دورها، في القرار الفرنسي عدم استدعاء سفيرها في لندن (أطلق جان إيف لو دريان على بريطانيا وصف «العجلة الثالثة» في الصفقة)، ولكن، مع ذلك، توضح الاتفاقية بالنسبة إلى بوريس جونسون الدور المتغيّر لبلاده في العالم. وهي تتناغم، بشكل ملائم، مع جهود ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، للترويج لـ«بريطانيا العالمية». كذلك، تعطي هذه الصفقة مضموناً لـ«الميل نحو المحيطين الهندي والهادئ»، الذي تمّ تبنّيه في مراجعة شاملة للسياسة الخارجية والدفاعية، نُشرت في آذار.
بالنسبة إلى الفرنسيين أيضاً، يُبلور «أوكوس» ما يرونه حقائق عميقة في العلاقات الدولية، ولا سيما فكرة أن أوروبا بحاجة إلى مزيد من «الحكم الذاتي الاستراتيجي»، حتى لا تعتمد بشكل مفرط على أميركا. ومع ذلك، فإن ردّ الفعل الصامت بين شركاء فرنسا الأوروبيين، يلقي بظلال من الشكّ على مدى جدّية مثل هذا الحكم الذاتي. بعد ظهور أخبار صفقة «أوكوس»، دعا مسؤول ألماني إلى «التماسك والوحدة» بين القوى الغربية، وهو الأمر الذي قال إنّه يتطلّب «الكثير من الجهد» لتحقيقه (…).
تعلّق فرنسا أهمية كبيرة على دورها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، حيث تحتفظ بحوالى 7000 جندي، ولديها ما يقرب من مليونَي مواطن، بما في ذلك أراضي الجزر، مثل كاليدونيا الجديدة وبولينيزيا الفرنسية. لقد دأبت على بناء ما اعتقدت أنه علاقة أوثق مع أستراليا. وأخيراً في 30 آب، تحدّث البيان الصادر عن المشاورات الوزارية الأسترالية – الفرنسية الرفيعة المستوى، عن «قوة شراكتنا الاستراتيجية» عبر العديد من المجالات، وشدّد على «أهمية برنامج المستقبل للغواصات». ومع هذا، لم يتمّ إخطار فرنسا في تلك القمّة بنيّة إنشاء «أوكوس»، ولا في العديد من المؤتمرات الأخرى على مدار الأشهر التي كان فيها التحالف قيد الإعداد (…).
(ذي إيكونوميست)
■ ■ ■
نظام عالمي جديد يتشكّل
يبدأ عالم جديد في التبلور، حتى لو ظلّ مقنَّعاً بملابس القديم.
(…) خلف المسلسل التلفزيوني الذي يصوّر الغضب الفرنسي، والصياح الهادئ على الأنغلو – ساكسونيين «الخونة»، يوجد شيء أكثر أهمية: الخطوط العريضة الباهتة لنظام عالمي جديد، أو على الأقلّ محاولة البدء في رسمه. كما لاحظ كارل ماركس، فإن القادة الذين يحاولون خلق شيء جديد «يستحضرون أرواح الماضي لخدمتهم». يتمّ نشر اللغة القديمة والشعارات والأزياء، لتقديم مشهد التنكّر الجديد. على هذا النحو، بذل الرئيس جو بايدن قصارى جهده للإشادة بفرنسا، والادّعاء أنها لا تزال «شريكاً رئيساً» في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. كما أنه كان يعاني في سبيل الإشارة إلى أن الغواصات التي ستقوم بدوريات على الساحل الأسترالي، لن تكون مسلّحة نووياً، بل تعمل بالطاقة النووية. وشدّد بايدن على أن الولايات المتحدة لم تخرق التزاماتها بمنع انتشار الأسلحة النووية، لكنها ببساطة تعزّز التحالفات القائمة.
لكنّ النظر إلى ظهور «أوكوس» على أنه علامة على الاستمرارية – كما قدّمها مهندسوها – هو تفويت للفكرة. على الرغم من أن بايدن أشار إلى فرنسا مرّتين في تصريحاته، إلّا أن البلد الذي كان في ذهنه لم يُذكر على الإطلاق: الصين.
مسؤول رفيع المستوى في الإدارة الأميركية قال إن التحالف مصمّم لتعزيز القدرات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، من خلال إدخال بريطانيا «بشكل أوثق في مساعينا الاستراتيجية في المنطقة ككل». لكن ما هو سعي بايدن الاستراتيجي؟ في بيانه، وضع بايدن رؤية لـ«منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرّة والمفتوحة». عبارة واحدة خالية من الهيمنة الصينية. وفقاً لمسؤول بريطاني، ظهر هذا المفهوم لأوّل مرة في اليابان، ومنذ ذلك الحين تبنّته أستراليا، وهي قوة أخرى في المحيط الهادئ شعرت بضغط من بكين (…). كان بايدن حريصاً على التأكيد أن «أوكوس» هو مثال لتحالف يعرض القوة الأميركية، على عكس التطوّر الذي حصل في ظلّ رفض دونالد ترامب مثل هذه الاتفاقات العالمية، والتي اعتبرها الرئيس السابق بمثابة عبء على الولايات المتحدة (…).
بالنسبة إلى أولئك الموجودين في الولايات المتحدة، والقلقين بشأن التوسّع الإمبراطوري للبلاد، فإن الأخبار التي تفيد بأنها دخلت في تحالف آخر للدفاع عن مناطق في العالم بعيدة عن شواطئها، قد تبدو وكأنها كابوس سبق أن شاهدوه (…). يرى بايدن وجونسون عالماً من التحالفات المتعدّدة والمتكاملة. على سبيل المثال، تحدّث بايدن عن «الرباعية» في بيانه، وهو التجمّع غير الرسمي للولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا، كما أنه ركيزة أخرى لسياسة الاحتواء الصينية لواشنطن. يمثّل هذا تبايناً مع عالم القرن العشرين، الذي تمحور حول تحالف عسكري على مستوى القارّة لاحتواء القوة العظمى المنافسة في ذلك الوقت. يرى جونسون أن ظهور عالم اليوم، بشكل أكثر خصوصية وذكاءً، أمر مثالي لبريطانيا، التي – في رأيه – فصلت نفسها عن ديمومة وعدم مرونة الاتحاد الأوروبي لدخول عالم أكثر «ديناميكية»، حيث يمكن أن تتفاعل بسرعة مع الأحداث، وتشترك في تحالفات جديدة مثل «أوكوس» على أساس مصالحها الوطنية الخاصة.
لكن ما يعكسه الإعلان عن التحالف، أيضاً، هو الحاجة إلى دعم النظام العالمي الذي تُرك ليذبل بعد 20 عاماً من الغطرسة والتجاوز الإمبراطوريين، واللذين كشف عنهما خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب ترامب بالقدر نفسه. لم يؤدِّ قرار دعوة بكين للانضمام إلى النظام الاقتصادي العالمي، في عام 2001، إلى بكين أكثر ليبرالية أو ديمقراطية، كما تصوّرها قادة العالم، بل إلى خصم أكثر قوة وأكثر وحشية نما، بينما الولايات المتحدة وحلفاؤها (بما في ذلك بريطانيا وأستراليا) مشتّتو الانتباه في الشرق الأوسط وأفغانستان. في الواقع، يتعيّن على الولايات المتحدة التكيّف مع العالم الجديد للقوة الصينية، من أجل حماية عالم التجارة العالمية القديم «الحر والمفتوح»، والتفوّق الأميركي الذي بنته واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية.
إن نهاية الحرب في أفغانستان، والتوجّه نحو الصين، وإعطاء الأولوية للتحالفات الأنغلو – قديمة على الاتحاد الأوروبي، كلّها تُعدّ تحرّكات استراتيجية كبرى. ومن هذا المنطلق، قال مسؤول بريطاني: «عندما تقوم بخطوات استراتيجية كبرى، فأنت تُغضب الناس».
(«ذي أتلانتك» – توم ماكتاغ)