الأخبار- وليد شرارة
لم يَحِد الرئيس الأميركي، جو بايدن، عن مسار سلفه دونالد ترامب، لجهة التصعيد المتهوّر مع الخصوم، وازدراء الحلفاء الذي وزّعهم على مرتبات، تحوز فيها أستراليا وبريطانيا موقعاً متقدّماً. اتجاهٌ يجلّيه تحالف «أوكوس» بين هذه الدول الثلاث، والمتوقَّع أن يرفع منسوب التوتُّر بدرجةٍ غير مسبوقة في منطقة آسيا – المحيط الهادئ، حيث تعاد صياغة تحالفات الولايات المتحدة على قاعدة «الاستدارة نحو آسيا»، بعدما أضحت حاسمة في عهد الإدارة الحالية التي وجدت مَن هو مستعد للسير خلفها من دون شروط في حربها الصليبية ضدّ الصين
ما قبل «أوكوس» ليس كما بعده
لفهم النقلة النوعية التي يمثّلها اتفاق «أوكوس» في استراتيجية الاحتواء البحرية والبرية الأميركية للصين، ينبغي العودة إلى تقدير دقيق لميزان القوى الراهن في منطقة آسيا – المحيط الهادئ، والتغييرات الناجمة عن الاتفاق المذكور. شرعت الصين، في العقدَين الماضيين، في عملية تحديث نشطة وواسعة النطاق لقدراتها العسكرية البرية والبحرية على حد سواء، إلى درجة أنّ بعض الخبراء الأميركيين والغربيين جزموا بأنها، في الميدان البحري، أصبحت تمتلك أكبر أسطول عسكري يصعب معرفة حجمه الحقيقي. وفي تقرير صادر عن «البنتاغون»، في الأول من أيلول 2020، أكّد الأخير أنّ أسطول بكين العسكري يتألّف من 350 قطعة بحرية من أحجام مختلفة وغواصات، بينما لا يضمّ الأسطول الأميركي سوى 293 قطعة بحرية. صحيح أنّ البحرية الأميركية أكثر تطوّراً على المستوى التكنولوجي، إذ لديها 11 حاملة طائرات نووية، هي بمثابة منصّات لمئات الطائرات من جميع الأنواع، إضافة إلى شبكة القواعد العسكرية المنتشرة عبر العالم، بينما ليس لدى بكين سوى حاملتَي طائرات تعملان بالدفع التقليدي. غير أن التقرير يضيف أنها ماضية في عملية تطوير نشطة لقدراتها التي تفوق القدرات البحرية لجميع بلدان هذه المنطقة، إذا لم نأخذ في الحسبان القدرات الأميركية. لليابان قدرات بحرية تجعل منها القوة الثالثة، إن صحّ التعبير، في هذه المنطقة، مع 40 قطعة بحرية عسكرية وحاملتَي مروحيات تقوم بتطويرهما لتصبحا منصات لطائرات «F35B» عمودية الانطلاق. للهند أيضاً أسطول بحري يضمّ غواصات، ينمو باضطراد. شرعت أستراليا هي الأخرى بتطوير قدراتها البحرية، غير أن صفقة الغواصات النووية مع واشنطن تشكّل قفزة نوعية في هذا المضمار.
عن هذا الموضوع، يقول الأميرال لي سي مينغ، رئيس هيئة الأركان التايواني السابق، في مقابلة مع «فايننشال تايمز»، إن الصفقة «تمنح أستراليا ردعاً استراتيجياً وقدرات هجومية لا سابق لها، مع قدرة على الحركة بعيداً من مياهها الإقليمية، وعلى قصف الصين بصواريخ توماهوك في حال اندلاع نزاع معها». وهو يضيف أن «التموضع المنطقي لمثل هذه الغواصات يجب أن يكون في المياه العميقة بجوار تايوان». يوضح هذا الكلام، الصادر عن مسؤول سابق في بلد يقع في قلب المواجهة مع الصين، الأبعاد الفعلية لصفقة الغواصات وطبيعة استراتيجية الاحتواء الأميركية ضدّ هذا البلد. فـ«الاحتواء»، كما أظهرت التجربة التاريخية مع الاتحاد السوفياتي السابق، لا يستند فقط إلى الانتشار عسكرياً في جوار العدو، بل إلى افتعال وتأجيج بؤر توتّر في جواره لاستنزافه. هذا ما حصل مع اعتماد واشنطن سياسة «الحزام الديني» ضدّ السوفيات، الكاثوليكي في بولونيا عبر دعم نقابة «تضامن»، والإسلامي الجهادي في أفغانستان. للصين نزاعات حدودية برية وبحرية عديدة مع بلدان الجوار، أكثرها سخونة موقفها من تايوان، إذ كرّر رئيسها، شي جين بينغ، أن توحيدها مع الوطن الأمّ «مهمّة تاريخية والتزام لا يتزعزع»، واعتبارها بحر الصين مياهاً إقليمية لا دولية، كما تصرّ الولايات المتحدة وحلفاؤها، والنزاع الحدودي مع الهند. ستعمد الولايات المتحدة إلى الوقوف في صفّ خصوم الصين لتشجيعهم على التصلّب في مقابلها وتعميق حدّة الأزمات بينهم وبينها، وتضييق هامش مناورتها البحرية وتهديد طرق مواصلتها التجارية إن اقتضى الأمر ذلك. نقطة أخرى ينبغي الالتفات إليها بالنسبة إلى اتفاق «أوكوس»، وهي تلك الخاصة بتطوير التعاون العسكري والصناعي والعلمي بين أطرافه الثلاثة، وتحديداً في ميادين الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية والحرب السيبرانية، لمجابهة التقدّم الصيني النوعي فيها.
فرنسا حليف أطلسي من الدرجة الثانية
كشفت أزمة الغواصات بين باريس من جهة، وواشنطن ولندن وكانبيرا من جهةٍ أخرى، حقيقة أن «الحلف الأطلسي» هو هندسة بمستويات متعدّدة، أي بكلام آخر، ومن منظور واشنطن، وجود حلفاء من الدرجة الأولى وآخرين من الدرجة الثانية. يشير البعض إلى أن هذا الأمر ليس جديداً، وأن «صلة الرحم» بين الولايات المتحدة والدول الأنغلوساكسونية تحملها على تمييزها والتعاون الأمني والعسكري معها بشكلٍ أكبر. غير أن أهمية العوامل التاريخية والثقافية في تفسير الموقف الأميركي لا تلغي طغيان العامل السياسي عند محاولة فهمه. هذا ما لاحظته سيليا بولان، الباحثة الفرنسية في معهد «بروكينغز»، عندما اعتبرت أن «الموقف الفرنسي الذي يريد التحالف مع الولايات المتحدة مع الإصرار على الاستقلالية صعب الترجمة عملياً، لأن واشنطن تطلب انقياداً كاملاً خلفها». وهي أوصت المسؤولين الفرنسيين بـ«تجنّب مواجهة علنية كتلك التي حصلت خلال الحرب على العراق، في عام 2003، والتي لم تخدم مصالح فرنسا». ترتفع الأصوات الداعية إلى استخلاص دروس هذه الأزمة حالياً في فرنسا، والعمل الجادّ لبناء سياسة أوروبية خارجية ودفاعية مستقلّة عن واشنطن. لكن، حتى الآن، من الملحوظ غياب أيّ تصريح أوروبي رسمي يتضامن مع باريس، بعد «الطعنة» التي تلقّتها من واشنطن، باستثناء المعلومات التي رشحت عن إبداء المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، استيائها تجاهها، خلال عشائها الوداعي مع إيمانويل ماكرون منذ أيام خلت. مُنيت فرنسا بخسارة من «العيار الثقيل» لَحِقَت بقسم وازن من قطاع صناعتها العسكرية والتكنولوجية. فاتفاق الغواصات، الذي وقّعته مجموعة «نافال غروب»، تمّ بين الدولتين الأسترالية والفرنسية، أي أن الأخيرة كانت الضامن له، وهناك عشرات الشركات التي كانت ستشارك في صناعة هذه الغواصات، كمتعاقدين رئيسين أو ثانويين، وبينها تلك العاملة في مجال التكنولوجيا المتطوّرة التي تجهّز الغواصات بالرادارات وأنظمة الاستشعار والاتصال وبمنظومة الأسلحة والصواريخ. وإن صحّت التسريبات الصحافية عن ضغوط أميركية على سويسرا للتراجع عن شراء طائرات «رافال» الفرنسية، في مقابل حصولها على «F35» الأميركية، سنكون أمام تصعيد كبير للضغوط الأميركية على صناعات السلاح الفرنسية، الذي تمثّل صادراته 8.2 في المئة من إجمالي صادرات السلاح في العالم، وأحد الموارد الحيوية بالنسبة إلى الاقتصاد الفرنسي. طرب المسؤولون الفرنسيون لوعود «الدكتور» بايدن عن الشراكة بين الديموقراطيات ومحاسن النظام الليبرالي الدولي، ليعودوا ويكتشفوا، بسرعة، أن «روح» ترامب الشريرة، المهجوسة بشعار «أميركا أولاً» تتلبّسه تماماً!