اجتمعت «الديموقراطيات الأنغلوساكسونية»، الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا، تحت مظلّة تحالف أمني – استراتيجي متعدّد المستويات، يركّز بشكل رئيس على منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، ويسعى إلى التكامل بين هذه الدول، لاحتواء الخصم الصيني في منطقة سريعة التحوّل. الاستثمار في التحالفات، وهو دأب الرئيس الأميركي جو بايدن، ولُب سياساته الهادفة إلى استعادة أميركا موقعها الريادي المتقدّم في العالم، بعد انتكاسات متتالية: داخلية عزّزتها سطوة اليمين والديموقراطية المتهافتة في السنوات الأربع الأخيرة، وخارجية لم يكن الانسحاب العسكري من أفغانستان إلّا أبهى صورها، بدأ يتبلور منذ الإعلان عن «تحالف أوكوس» بين هذه الدول الثلاث. وإن كانت كانبيرا بيضة قبان الاتفاق السالف، نظراً إلى موقعها الجغرافي، كهمزة وصل بين الشرق والغرب، إلّا أن لندن الساعية إلى التمايز عن محيطها الأوروبي بعد «بريكست»، أُلحقت به، بسبب استعدادها للانقياد التام خلف الحليف الأميركي. وأتى الإعلان عن المعاهدة الأمنية الجديدة خلال قمة افتراضية استضافها الرئيس الأميركي جو بايدن في البيت الأبيض، وشارك فيها كلّ من رئيسَي الوزراء البريطاني بوريس جونسون، والأسترالي سكوت موريسون، ليعكس «المستوى الفريد من الثقة والتعاون بين البلدان الثلاثة، التي تشارك بالفعل معلومات استخبارية واسعة من خلال تحالف العيون الخمس». أمّا الثمرة الأولى في إطار الاتفاق، فهي التعاون لتوفير غواصات تعمل بالدفع النووي للبحرية الملكية الأسترالية، والتي سيتم نشرها، وفق ما جاء في بيان الثلاثي، «لدعم قيمنا ومصالحنا المشتركة»، و«لتعزيز السلام والاستقرار في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ».
يمثّل الإعلان، بلا شكّ، نقطة تحوّل استراتيجي، لا سيما أنها المرّة الأولى التي ستشارك فيها الولايات المتحدة مثل هذه التكنولوجيا الحسّاسة مع دولة أخرى غير بريطانيا (1958). وتقول كانبيرا إن استحواذها على هذه التكنولوجيا المتطوّرة، «حتّم» عليها إلغاء صفقة ضخمة بقيمة 60 مليار دولار أبرمتها مع باريس، وعرفت باسم «صفقة القرن» للصناعة الدفاعية الفرنسية، لشراء 12 غواصة تقليدية من طراز «أتّاك». لكن ما سبق يشكّل واحداً من مستويات التعاون في إطار التحالف الجديد؛ إذ تقول صحيفة «غارديان» البريطانية إن «أوكوس» يفتح الباب أمام تعاون عسكري أكبر بين الحلفاء التقليديين الثلاثة، وسيدعم تعاوناً واسع النطاق بينهم في مجالات مثل الأمن السيبراني، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمية، وهو ما تسعى إليه الصين بشكل مكثّف. وتلفت الصحيفة نفسها إلى أن الردّ الحازم والموحّد على تصرّفات بكين من قِبَل «الدول الديموقراطية» أمر منطقي ومرغوب فيه.

أما في شأن ما إذا كان هذا الاتفاق سيقيّد الصين أو سيدفعها إلى تعزيز قدراتها العسكرية، والسعي وراء علاقات أوثق مع روسيا، وتكثيف أشكال الضغوط الأخرى، فهو متروك للمستقبل المنظور. وفي هذا الاتجاه، ترى «واشنطن بوست» الأميركية أن «أوكوس» تشكّل «تحدّياً مباشراً لطموحات الصين وقدراتها، لأن تعزيز القدرات البحرية الأسترالية يسمح لها بفرض دفاع أقوى إذا كانت بكين تهدّد مصالحها الاستراتيجية، كما أنه يضع بريطانيا وأميركا بشكل مباشر خلف أستراليا، وهو ما سيجبر الصين على الاعتراف بأن أيّ محاولة للتنمر على جارتها ستواجه مقاومة موحدة، فلا عجب أن تندّد بقوّة بالصفقة». وبحسب موقع «ستراتفور»، سيبقى «أوكوس» مبادرة ثلاثية تسمح بمزيد من التعاون والتركيز الاستراتيجي من دون تعقيدات الائتلافات الكبيرة، والتي غالباً ما تقع ضحية للأولويات والمصالح المتباينة، وقد يؤدّي تركيزه العسكري الاستراتيجي الواضح إلى زيادة الاحتكاك بين الولايات المتحدة والصين، وزيادة الجهود الصينية لإجبار مختلف الدول على الابتعاد عن التعاون مع واشنطن.
وفي تفاصيل الاتفاق الذي أُعلن عنه الأسبوع الماضي، تورد «نيويورك تايمز» أن الولايات المتحدة وأستراليا بذلتا جهوداً كبيرة للحفاظ على سرّية مفاوضاتهما حول صفقة الغواصات النووية والحؤول دون علم باريس بها. وبحسب الصحيفة، فإن المفاوضات حول الصفقة الجديدة بين الأميركيين والأستراليين بدأت بعد وقت وجيز من تنصيب جو بايدن، إذ تواصل الأستراليون مع الإدارة الجديدة قائلين إنهم توصّلوا إلى أنه يتعيّن عليهم إلغاء الاتفاق الذي أبرموه مع فرنسا، والبالغة قيمته 60 مليار دولار لتزويدهم بغواصات حربية، وأعربوا عن خشيتهم من أن الغواصات الفرنسية التي تعمل بالطاقة التقليدية قد يكون طرازها قديماً بحلول موعد تسليمها، وعن رغبتهم في الحصول على أسطول من الغواصات الأقل ضجيجاً والتي تعمل بالدفع النووي والمصمَّمة من قِبَل الولايات المتحدة وبريطانيا بغرض استخدامها لتسيير دوريات في مناطق بحر الصين الجنوبي، بحيث تصبح مخاطر اكتشافها أقلّ. وتفيد «نيويورك تايمز» بأن بايدن، الذي جعل من التصدّي لطموحات الصين الإقليمية محور سياسته للأمن القومي، أخبر مساعديه بأن الغواصات فرنسية الصنع لن تفي بالغرض المطلوب، كونها لا تملك القدرة على أن تجوب المحيط الهادئ لتظهر بشكل مفاجئ قبالة الشواطئ الصينية، وتضمن للغرب عنصر مفاجأة عدوّه عسكرياً، موضحةً أن قرار الرئيس الأميركي يشير إلى أنه بدأ تنفيذ استراتيجية «الاستدارة نحو آسيا» التي وضعتها إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، قبل 12 عاماً.