عامر محسن / الأخبار
«جلسة لقادة فصيل انتاجي بعد حصاد ناجح»، من ملصقات الصين الماوية (1974)
يرسل لي الأصدقاء، منذ سنوات، مقالات وأخبار تقارن بين الصين الصاعدة وأميركا، وكيف تلاحق الصين أميركا في هذا المضمار العلمي، أو كيف سبقتها في ذاك المجال الصّناعي، وأين أصبح حجم الاقتصاد الصيني مقارنة بنظيره الأميركي، إلخ… غير أنّ هذه المقارنة هي شكليّة بحت، ليست علميّة أو صحيحة، سواء كنّا نتكلم عن الساحة الدولية والصراع العالمي أو نقارن نظامي البلد داخلياً ببعض.
من ناحية العلاقات الدولية، هذه النظرة التبسيطية تفترض وجود بلدين فقط في النظام العالمي، كأنهما مصارعان في حلبة، وهذا غير صحيح، فالنظام الدولي مكوّن من تحالفات عسكرية وتكتلات متداخلة في طوله وعرضه. مقارنة بلدين بمعزلٍ عن ذلك لا يصحّ إلّا لقياس عدد الميداليات التي يحوزونها في الأولمبياد، ولكنها لا تفسّر السياسة الدولية (هذه من مشاكل أكاديميين مثل بول كينيدي حين يتكلّم عن الصين وأميركا، إذ يعتمد على الإطار التقليدي القديم في العلاقات الدولية ويحلّل كلّ بلدٍ كأنه كيان منعزل).
حتى نشرح: بدلاً من أن تقارن حجم اقتصاد أميركا بالصّين، عليك أن تنظر إلى أكبر عشرين اقتصادٍ في العالم. جيء بلائحة بهذه البلاد العشرين مثلاً، وهي تختزل مجتمعة أكثر التجارة الدولية، وأكثر الرساميل والتكنولوجيا والقوة العسكرية في العالم، وستجد أن 16-17 منها سيقف، بوضوح ومن غير شكّ، في معسكر الولايات المتحدة إن حصت مواجهة صفريّة اليوم، أو «حرب باردة جديدة» كما يسمّيها الغربيون. بعض هذه الدّول هي أوروبية، يجمعها بأميركا حلف «ناتو» منذ الحرب العالمية وبعضها، مثل اليابان وكوريا، لا يملك سيادةً فعلية في سياساته الخارجية، وبعضها مثل الهند تحكمه حالياً قيادات موالية لأميركا وتعادي الصّين. إن تحقّق هذا السيناريو اليوم، في السياق القائم، وقام كلّ قطبٍ ببناء «أسوار» حول معسكره، كما في أيام الحرب الباردة، فمن سيقف مع الصّين وضدّ كلّ هذه الدّول الثرية القويّة (ومعها نظام الدّولار)؟ كمبوديا؟ لاوس، ربّما؟ الفكرة هنا ليست تثبيط الهمم، بل على العكس تماماً، الهدف هو أن نفهم خطورة الوضع تجاه الصّين، فيما أميركا تحاول قيادة حلفٍ دوليٍ كبير لعزلها وضرب تجربتها وتخريب مستقبلها. لا يجب أن تبتلع الخطاب الغربي اليميني عن «الخطر الصيني» وكيف أنّها على وشك احتلال العالم، وأن تشهره بانتصاريّة كأنه حقيقة، فأنت هنا تساهم في الحرب على الصّين ولست معها، أو تجهل كيف يرسم الخطاب الأميركي صورة أعدائه تقليدياً، وكم هي بعيدة عن الواقع.
قد نتكلّم في مقالٍ قادم عن شروط هذه المواجهة وخطّة الصين للسنوات القادمة، وكيف تحاول أن تتجنّب العزل فيما تستمرّ بالنموّ لسنواتٍ قادمة (بعدها يكون السّياق قد تغيّر جذرياً، يأمل الصينيون)، ولكن هذا ليس موضوعنا اليوم. الخلل الثاني في المقارنة «الشكلية» هو الفارق في دخل الفرد بين أميركا والصّين. بغض النظر عن الحجم الإجمالي للاقتصاد فإنّ الصين لا تزال، مقارنة بالدول الغربية الثريّة، بلداً فقيراً للغاية، ما زال في منتصف سلّم التنمية. دخل الفرد الصيني يوازي 20% تقريباً من دخل نظيره الأميركي، وهذا الرّقم سنكرّره مراراً، فهو أساس الحجّة التي أقدّمها هنا. المسألة ليست في أنّ الصّين تنافس أميركا في المجالات التقنية المتقدّمة، أو أنّها أنجزت كلّ هذه البنى التحتيّة، أو أنها قضت على الفقر المدقع فيها، أهميّة كلّ هذه الأمور هي أن الصين تفعلها فيما دخل المواطن فيها لا يزال خُمس مثيله في الغرب، والمجتمع الصيني ليس فيه الفائض الكبير الذي تملكه تلك الدّول. تخيّلوا إذاً أين ستكون الصّين، وكيف سيكون شكل المجتمع الصيني وإنجازاته، حين يصل دخل الفرد فيها إلى خمسين أو ستين في المئة من دخل الأميركي، حتى لا نقول يوازيه؟ هنا تكمن المقارنة الحقيقيّة وهذا رهان المستقبل، ولهذا السّبب ــ أحاجج ــ تمثّل الصين اليوم إحدى الآمال القليلة للإنسانية في تصوّر مستقبلٍ مختلف. وبالمثل، إن تمكّنت أميركا من ضرب الصّين أو عزلها، فإننا – الكوكب بأكمله – سندخل في مرحلةٍ جديدة مظلمة من انتصاريّة الرأسمالية الليبرالية، وقد يكون تأثيرها، بشرياً وسياسياً وفكرياً، أثقل من كلفة انهيار الاتحاد السوفياتي.
«الثورات الثلاث»
بدلاً من الحوار مع البروباغاندا الأميركية حول الصّين أو محاولة تفنيدها، ما سأفعله هنا هو أن أحاول شرح سياسات الصين من خلال رؤية القيادة الصينية نفسها للبلد ومساره، ثمّ سأناقش حالة محدّدة، هي حملة القضاء على الفقر المدقع (2015-2020)، كمثالٍ عن عمل المنظومة الصينية ومفهوم التنظيم الجماعي والسياسة الشعبية فيها.
هناك مقولة بأنّك، إن أردت أن تفهم عقلية القيادة ومنهجها، فإن عليك أن تبدأ بفهم نظرتها إلى «الماركسية اللينينية»، وتحديداً المنطق الجدلي فيها. تكلّم العديد من الباحثين عن هذه النقطة، بينهم جون بيلامي فوستر في ملفٍّ عن الصين أصدرته مؤخّراً الـ«مونثلي ريفيو» (وهناك أكاديمي صيني كتب عن الموضوع باستفاضة ودقّة أكثر، ولكني أضعت النصّ واسم الكاتب من المستحيل أن أتذكّره).
الفكرة هي أن الماركسية اللينينية لا تعطيك «خريطة طريق» للحكم، أو تقترح سياسات اقتصادية وصناعيّة محدّدة أو تصوّراً عملياً عن شكل الاشتراكية. ما اكتسبه الصينيّون والحزب الشيوعي من الإيديولوجيا هما نقطتين أساسيّتين: أوّلاً، إيمانُ جوهري بأن النظام الاشتراكي، في ظروفٍ متشابهة، سيتفوّق دوماً على النظام الرأسمالي، والنقطة الثانية هي المنهجية الجدليّة في التفكير السياسي.
ماذا يعني ذلك؟ على عكس الليبراليّين وغيرهم ممن يعتمد قالباً محدّداً بشكلٍ دائم لإدارة الاقتصاد والمجتمع، ويعتبرونه الأصحّ أو الأقرب إلى المثالية، يرى الصينيون التاريخ بشكلٍ ديناميكي. تاريخك وماضيك أفرز سياقاً محدّداً تعيش فيه الآن، فيه تناقضات وتحديّات تصنع بدورها، أهدافاً محدّدة عليك تحقيقها وتتطلّب استراتيجية مناسبة لهذا السياق. مع الوقت، سوف تولّد أفعالك ومرور الزمن سياقاً جديداً وتناقضات وتحديات جديدة، تستلزم رسم أهدافٍ واستراتيجيات مختلفة. هذا ما نعنيه بالمنهج الجدلي هنا.
كيف يُترجم ذلك عملياً؟ بين عامي 1949 و 1978، كان الهدف الأساس للحزب الشيوعي مزدوج: تحقيق سيادة الصين وتحصينها من الغزو الخارجي (لمن يعتقد أن المسألة هيّنة أو «رمزية»، فإن جولة الغزو الأخيرة للبلد، الاحتلال الياباني، خلّفت بين 30-35 مليون قتيل، وقطعت أوصال الأمّة، وكادت تستعمر الصّين). وهذا قد تحقّق جزئياً بفضل «الجيش الشعبي» ومن ثمّ تمّ الهدف مع امتلاك الصين للسلاح النووي عام 1960. والهدف الثاني في تلك المرحلة كان في وضع أساس دولةٍ جديدة: تدمير النظام القديم واستبداله، ورفع الشعب الصيني من حالة الفقر الأقصى والأميّة والجّوع التي كان قد وصل إليها و«بناء» طبقة عاملة متعلّمة وصحيحة، حولها بنية أساسية تسمح بإطلاقٍ مجتمعٍ صناعي منتج. في أواسط السبعينيات كان الهدفان أعلاه قد تحقّقا ولكنّ التناقض الأساسي الذي ركزت عليه القيادة الصينيّة أصبح تحدّي «توسيع قاعدة الإنتاج». الفكرة هي «أننا موجودون في العالم بقدر ما نحن ننتج»، وهذا يحتاج إلى تكنولوجيا ورساميل من المستحيل توليدها في الصّين داخلياً، فعليك أن تربط نفسك بالسوق الدولي بغية استخدام عوائد التصدير للنموّ بسرعةٍ فائقة وبأيّ ثمن. هذه المرحلة استمرّت تقريباً حتى عام 2010، حين أعلنت الصّين أنها على وشك تحقيق هدفها بأن تصبح «بلداً ذا مستوى ازدهارٍ متوسّط»، يقع دخل الفرد فيه اليوم بين دولٍ مثل البرازيل والمكسيك.
ولكنّ عملية النموّ والاستثمار المحموم هذه خلقت بدورها، على مدى عقود، عدداً كبيراً من الاختلالات والتناقضات: بين الأثرياء الجدد والفقراء، بين الريف والمدينة، بين الساحل والداخل، تدمير البيئة، إلخ. هنا معنى «الثورة الثالثة» التي تجري في الصّين اليوم: أنّنا وصلنا إلى سياقٍ جديد، والأولوية يجب أن تكون لمعالجة اختلالات المرحلة السابقة، والوصول إلى نموّ «متوازن» و «رخاء للجميع»، والتركيز على العدالة الاجتماعية والإنتاج ذو القيمة المضافة العالية، الذي يعتمد على التقنية والإنتاجية وليس اليد العاملة الكثيفة، ويناسب مجتمعاً بدأ يشيخ. الهدف المعلن هنا أن تصبح الصّين بلداً «مزدهراً» بالمقياس العالمي خلال خمسة عشر عاماً، ولكن بشكلٍ متوازن وأكثر عدالة واستدامة.
لم يغزوا دولاً ويخرّبوا مجتمعات… ولم يجبروا أحداً على شراء بضاعتهم… هم نتاج أجيال ناضلت وضحّت لأكثر من نصف قرن، ولا يجوز للأميركان أن يسلبوهم ما حقّقوه
لا بدّ من أن أعبّر هنا عن دهشتي من قدرة الدعاية الأميركية في هذا المجال. تخيّل أن يقوم المنظّمون الصينيّون بفرض قيودٍ على «جاك ما» وشركته، وباقي الشركات الهائلة ذات الطابع الاحتكاري، فيخرج الإعلام الغربي طالباً منّا أن نتعاطف مع الملياردير، ويتمّ تقديمه على أنّه هو المسكين والضحيّة. هل هناك معنى أعمق من هذا للبروباغاندا والهيمنة الإيديولوجية؟ سأعطي أمثلة عن الإجراءات والقيود التي تفرضها الحكومة مؤخراً على هذه الشركات واحكموا بأنفسكم: هي تطلب منهم، أولاً، أن يعاملوا موظفيهم بشكلٍ أفضل (وبخاصة شركات التوصيل والتاكسي التي توظف الملايين: يجب أن ترفعوا رواتبهم، أن تشتروا لهم تأميناً لائقاً، لا يجب أن يعملوا ستة أيام في الأسبوع، إلخ). ثانياً، هم أجبروا على احترام خصوصية زبائنهم ومعلوماتهم. هنا أيضاً، صدرت تنظيمات تمنع الشركات العملاقة من احتكار الـ«داتا» التي تولّدها. اعتبر المنظمون الصينيون أن الـ«داتا» هي عنصر من عناصر الإنتاج اليوم، مثل العمل ورأس المال. من هنا، فإن احتكرت الشركات الكبرى «داتا» مليار صيني ونصف، فلن تتمكن الشركات الصغيرة والمتوسطة يوماً من دخول السوق والمنافسة. أجبرت الحكومة «علي بابا» و«تينسنت» وغيرها على مشاركة الـ«داتا» التي تملكها وبيعها لكلّ من يريد الوصول إليها. فوق ذلك، سيدفع الأثرياء والشركات ضرائب أكبر على أرباحهم، وتلوي الحكومة ذراعهم للتبرّع بجزءٍ من ثرواتهم للأعمال الخيرية (يسمّونه «التوزيع الثالث»، بمعنى أن التوزيع الأساسي للدخل يحصل في السوق، و«التوزيع الثاني» هو عبر الضرائب وسياسات الحكومة، فيما «التوزيع الثالث» هو إعادة توزيع الدخل عبر التبرعات والأعمال الخيرية).
كيف يمكن تقديم سياسات كهذه على أنّها قيود شيطانية تفرضها حكومة متجبّرة؟ أليست هذه هي الأمور التي يطالب بها «اليساريون» في الغرب؟ الحدّ من سلطة رأس المال ومحاسبة الأثرياء وإجراءات اجتماعية لا تضع منطق الربح فوق كلّ شيء؟ جاك ما، بالمناسبة، كان يتمدّد من قطاع التكنولوجيا إلى ما يشبه العمل المصرفي، إذ ساهم في خلق سوقٍ هائلة للقروض الشخصية يقوم على المضاربة، ويقدّم القروض للناس تقريباً من غير قيودٍ أو رقابة ويعرّضهم لشتى المخاطر، مسكين جاك ما.
أكرّر دوماً أن سبب نجاح الدعاية الأميركية ضدّ الصين هو أنّها لم تصبح بلداً ثرياً بعد، يموّل امبراطورية ويشتري النخب حول العالم، وحين يحصل ذلك يوماً، أعرف أنهم سيزايدون عليّ بالدفاع عن الصّين وعن حكمة القيادة، واستعراض مزايا مطبخ سيتشوان (أعرف مثقفاً لبنانياً، مواقفه رجعية وسيئة كأكثر طبقته، ويعيش لكي يحوز رضا الغرب ومؤسساته. ولكن الأمر لم يستلزم أكثر من دعوةٍ من الحزب الشيوعي الصيني وسفرةً إلى بيجينغ ليعود ويخبرنا بأن الصين اليوم هي الاشتراكية الحقيقية، وأن شي جينبينغ هو ماركس وماو ويسوع معاً).
أن تنظّم شعباً
أهمّ من ذلك هو مثال حملة القضاء على الفقر المدقع. تخيّلوا أن تأخذ ما يقارب المئة مليون مواطن صيني، هم الفئة التي فاتها فعلياً قطار التنمية والرخاء في السنين الماضية، يعيش أكثرهم في مناطق نائية، وبعضهم حرفياً في كهوفٍ أو في أعالي قممٍ تصل إليها مشياً (بمعنى أنهم حتى لو أنتجوا، فهم لن يجدوا طريقة لبيع منتجهم في السوق). تخيّل أن تأخذ كتلةً من الناس توازي عدد سكّان فرنسا وإسبانيا معاً، كلّهم فقراء ومحرومون، وتقرّر أن تنتشلهم جميعاً من هذه الحال، حتّى آخر واحد فيهم. أن تضمن، حتّى لأضعف مواطنيك وأكثرهم تهميشاً، حدّاً أدنى من الدّخل والإنتاجية، وضمانةً بأن يحصل على غذاءٍ وكساءٍ لائق، وبيتٍ فيه ماء وكهرباء، وتعليم مجاني ورعاية صحيّة (يسمّي الصينيون هذه الحقوق «دخلٌ واحد، ضمانتان، وثلاثة تأكيدات»، وهي الفلسفة التي قادت حملة إزالة الفقر). ولكن العديد من الناس يعتبرون أن الإنجاز التقدّمي الأكبر في السنة الماضية كان فوز جو بايدن بالرئاسة الأميركية.
ولكن المسألة هنا لا تتوقّف على حجم الإنجاز ومعناه السياسي، بل هي أساساً في كيفية حصوله وكيفية إدارة حملة هائلة من هذا النّوع، وهنا يكمن أحد أهمّ الدروس التي يمكن تعلّمها من التجربة الصينية. أعتمد هنا على أكثر من مصدر، على رأسها بحثٌ مميّز عن الموضوع عنوانه «خدمة الناس»، نشره مركزُ اسمه «مؤسسة القارات الثلاث» وكتبه بشكلٍ أساسي الباحثون تينغز تشاك ولي جوانهوا وليليان جانغ.
مع أنّ الحملة قد انطلقت رسمياً عام 2015 واستمرّت خمس سنوات، إلّا أن العمل ابتدأ في 2013. يومها، تمّ تكليف 800 ألف كادر من الحزب الشيوعي بزيارة كلّ بيت ومنزل وعائلة في الصين، وبناء قاعدة إحصائية عن كلّ فرد فيها، لا تعتمد على الدّخل وحده، بل على كامل المؤشرات التي تؤثر على حياتك: الصحة، التعليم، الوصول إلى الخدمات، إلخ. بعد ذلك، تمّ تكليف مليوني كادر من الحزب بمراجعة أرقام الفريق الأوّل وتمحيصها، لينتخبوا في النهاية 98 مليون مواطنٍ تنطبق عليهم مؤشرات الفقر المطلق. حين ابتدأ العمل على الأرض، اختير ثلاثة ملايين كادر من الحزب، سافروا إلى أكثر من 128 ألف بلدة وقرية في كلّ أرجاء الصين، وكلٌّ معه لائحة بأسماء عائلات محدّدة محرومة، وهو سيعمل معهم بشكلٍ مباشر ويتابعهم شخصياً حتّى يتحقّق الهدف ويخرجون جميعاً من حالة الفقر. وهذه الكوادر، بالمناسبة، ذهبت إلى أطراف الصين الفقيرة، لتعيش أدنى مستوى حياة في البلد بين هؤلاء النّاس، يتابعون كلّ نواحي تطوّرهم، من العمل وتعليم الأولاد وصولاً إلى تعليمهم كيفية البيع على الإنترنت أو تقديم عريضةٍ أو الاستحصال على خدمة. عاشوا حياةً صعبة في هذه القرى والبلدات، لسنوات، حتى أنجزوا هدفهم الذي جاؤوا من أجله.
ولكن الحزب الشيوعي هنا ليس سوى «العقل» الذي يدير العمليّة، فهو – على ضخامته – لا يمتلك القدرات والموارد لتمويل وتنفيذ حملةٍ بهذا الحجم. كلّ أعضاء المجتمع، حرفياً، تداعت لمساعدة الفئة المستهدفة في الحملة. المقاطعات الساحلية الثرية دفعت لصالح صندوق إزالة الفقر، ثم حثّت الشركات فيها على استثمار مبالغ هائلة لإقامة مصانع ومصالح لها في تلك البلدات، بغية تأمين وظائف لائقة فيها. الحكومات المحلية كان لها دورٌ أساسي. الدّولة ووزاراتها المختلفة دخلت في العملية، وبنت عشرات آلاف الكيلومترات من الطرق الريفية والمدارس والخدمات الصحية. الجيش انهمك في بناء طرقٍ وجسور تصل المناطق النائية ومشاريع ريّ وما شابه. والقطاع الخاصّ تمّ أيضاً تحشيده للمهمّة: حين تُطلق الحكومة في الصين حملةً وطنية من هذا النوع وتعلن أهدافها وتدعو للمبادرة، تتسابق الشركات على المساهمة و«إظهار وطنيتها» أمام الحكومة، فقامت شركات بالتبرع بالمليارات للصندوق، وأسست شركة تقنية مراكز لتدريب الفقراء على وظائف جديدة، فيما أنشأت شركة أخرى سوقاً لهم على الإنترنت لبيع منتجاتهم بسهولة. تمّ إسكان ملايين الناس في منازل جديدة، إذ وجد المخططون أنهم يعيشون في أماكن معزولة أو أرضها سيئة غير منتجة إلى درجة أن البقاء هناك، مهما فعلت، هو حكمُ بالفقر الدائم، فتمّ بناء مجمعات سكنيّة لهم في مناطق مناسبة، معها مدارس ووظائف، وبيعت الشقق بأسعار رمزية، ودفعت الدولة عنهم فواتير الخدمات لأشهر وأعطتهم منحاً للاستقرار في بيوتهم الجديدة (وحصل بالتوازي ترميمٌ لملايين البيوت الأخرى التي ظلّ فيها أهلها).
يقول البعض أنّ هذا النمط من الحملات الشمولية يعتمد منهجية اسمها «حساء الحصى» (انطلاقاً من القصة القديمة الشهيرة عن رجلٍ أقنع أهل القرية بأنه سيحضّر لهم حساءً باستخدام حجرٍ لا أكثر، ثم يقنع كلّ فردٍ بإضافة غرضٍ مختلف إلى القدر حتى اكتمل الحساء). ولكنّ هذا النمط من التحشيد الجماعي لم يولد مع حملة إزالة الفقر هذه، بل هو تراثٌ سياسيٌّ قديم ومتجذّر في الصّين يعود إلى أيّام ماو، حيث يجنّد كامل المجتمع، دورياً، لتحقيق هدفٍ وطنيّ جماعي، ويكون لكلّ فردٍ في العملية دوره. هذا ما حصل، بالمناسبة، حين وقع وباء «كوفيد» الأخير، وهو السبب في نجاح هذا البلد الهائل بالتحكّم السريع بالوباء والانتظام الفريد في خطّة الحجر: آخر مواطن في آخر مبنى في آخر بلدة في الصّين تحيط به هيئة محلية، ومسؤولٌ يتواصل معه ويقسّم الأدوار، والمواطن يعرف تماماً ما عليه فعله وينفّذه بشكلٍ جماعي مع جيرانه. نجد هنا مفهوماً عن المشاركة الشعبيّة والسياسة الجماعيّة لا يمكنك أن تفهمه عبر العدسة الليبرالية، وهذا البناء التنظيمي الهائل، والشرعية التي يحوزها، هو الإرث الحقيقي للنظام الصيني ومصدر الكثير من إنجازاته.
خاتمة
بعيداً عن السياسة والصراعات الدوليّة، هناك عامل إنساني هنا لا يمكن الخروج عنه: مع من نتماهى؟ اقرأ في دراسةٍ عن موضوعٍ مختلف عن حالة امرأة تعمل، كالكثيرين، في بيجينغ وتسكن مع عائلتها في هيبي المجاورة. في البداية، كانت تستيقظ يومياً في الرابعة ونصف صباحاً بسبب الازدحام في الطريق إلى العاصمة، وتحصل عند عودتها على ساعةٍ مع أولادها في المساء قبل أن يناموا. حوالي عام 2010، أصبح هناك القطار السريع الذي غيّر حياتها وجعلها أكثر راحة، تنطلق إلى العمل في الساعة السابعة وتكون في المنزل بعد الخامسة بقليل. واليوم، بعد أن ارتقت في العمل، تفكّر وزوجها بالانتقال إلى تيانجين، وهي مدينة ساحلية شرق بيجينغ، يقال أن الحياة فيها أجمل والمدارس أفضل. حين يشهد أكثر من مليار صيني، بشكلٍ مباشر وملموس، هذه التغييرات والتطورات وهي تحصل حولهم خلال فترة زمنية وجيزة، وتغيّر حياتهم إلى الأفضل، فهذا مفعوله على النّاس أقوى من كلّ الطقوس السياسية والكلام الإيديولوجي.
كنت أقرأ أيضاً أنّ الصينيين، في السنوات الأخيرة، حوّلوا ارتياد المطاعم إلى ما يشبه الفنّ والمتعة الجماعية. أصبحت هناك فئات واسعة من الصينيّين تقدر على تجربة الأكل في الخارج، وهو ما لم يكن متاحاً لآبائهم، أو حتى لهم في طفولتهم، وكان ترفاً كبيراً. تنتشر كلّ أنماط المطاعم في البلد بشكلٍ كثيف، من العربات التي تبيع الوجبات في الشارع للموظّفين الذين يتحلّقون حولها، وصولاً إلى المطعم الفاخر الذي يقدّم لك الجزء الغريب من السمكة النادرة (يقول مقالٌ عن سوق الطعام في الصين أن الجيل الجديد يحبّ مطاعم الhot pot، حيث يوضع على الطاولة أمامك قدرٌ فيه مرقٌ يغلي، وصينية عليها شرائح من اللحم والخضار والأسماك، تضعها بنفسك في القدر لدقائق قليلة لطهيها. وهناك، في تحضير هذا الطبق البسيط، عشرات المذاهب والمدارس). الفكرة هي أن الصينيين يحوّلون هذه الوجبات الجماعية إلى ما يشبه «المناسبة» أو «الحدث»: يطلبون طعاماً أكثر مما يحتاجون، ويقضون ساعاتٍ في الأكل والشرب والتدخين في جوٍّ فرٍح. والكلام المضمر هنا هو أنهم يحتفلون، بشكلٍ رمزيّ، بالنجاح المادّي الذي حقّقوه، والرخاء النسبي والمتع التي لم تكن متاحة لهم ولمن سبقهم («لقد تعبنا واجتهدنا وضحّينا سويّةً، والآن نحتفل»). بالمعنى الإنساني البسيط، هؤلاء الناس يستحقون ما وصلوا إليه، ويستحقّون أن يكون لديهم مستقبل كما يريدون، هم بنوا بلدهم من غير أن يغزوا دولاً ويخرّبوا مجتمعات ويستعمروا الخلق، ولم يجبروا أحداً يوماً على شراء بضاعتهم أو اعتماد نمطٍ سياسي أو اقتصادي يخدمهم. هم نتاج أجيالٍ ناضلت وضحّت لأكثر من نصف قرن، ولا يجوز للأميركان أن يسلبوهم ما حقّقوه..