توماس فريدمان
يوماً ما، بعد 1000 عام من الآن، عندما ينكب علماء الآثار على دراسة هذا العصر، سيتساءلون بكل تأكيد كيف أمكن لقوة عظمى تدعى أميركا سعت لجعل الشرق الأوسط يشبهها – عبر تبني التعددية وحكم القانون – ولكن انتهى بها الأمر بدلاً من ذلك إلى أن أصبحت أشبه بالشرق الأوسط – تحاكي أسوأ عاداته القبلية، وتُدخل مستوى جديداً تماما من انعدام القانون إلى حياتها السياسة الوطنية؟ الشرق الأوسطيون قد يسمّون قبيلتيهما الكبريين «الشيعة» و«السنة»، والأميركيون قد يسمون قبيلتيهما الكبريين «الديمقراطيين» و«الجمهوريين»، ولكن يبدو أن كليهما يشتغل على نحو متزايد وفق عقلية «نحن مقابل هم»، وإن بمستويات حدة مختلفة.
فقد تسارعت «القبلية الجمهورية» المتطرفة بشكل كبير في وقت أصبح فيه الحزب «الجمهوري» خاضعاً لسيطرة قاعدة مؤلفة في معظمها من المسيحيين البيض، الذين كانوا يخشون أن تضعف هيمنتهم الطويلة على بنية السلطة في أميركا وتتآكل جراء المعايير الاجتماعية المتغيرة بسرعة وازدياد الهجرة والعولمة، ما جعلهم يشعرون بأنهم لم يعودوا «في وطنهم».
غير أن علماء الآثار سيلاحظون أيضا أن «الديمقراطيين» أبدوا نوعاً خاصاً بهم من الجنون «القبلي»، مثل التفكير الجماعي المتماهي للتقدميين في جامعات القرن الحادي والعشرين الأميركية. فقد كانت هناك أدلة على تعرض أستاذة وإداريين وطلبة لـ«الإلغاء» – إما أُسكتوا أو طُردوا من الجامعات لأنهم عبّروا حتى عن آراء ومواقف مخالفة أو محافظة بخصوص السياسة أو العرق أو النوع أو الهوية الجنسية.
والحال أن وباء «الصواب السياسي» القبلي من اليسار أدى فقط إلى إلهاب التضامن القبلي على اليمين. ولكن ما الذي أدى إلى التحول من التعددية التقليدية إلى القبلية الشرسة في الولايات المتحدة والكثير من الديمقراطيات الأخرى؟ جوابي القصير هو أنه أصبح من الصعب كثيراً الحفاظ على الديمقراطية اليوم، في ظل الشبكات الاجتماعية التي تعمل على تقسيم الناس واستقطابهم باستمرار، والعولمة، وتغير المناخ، والحرب على الإرهاب، واتساع الفوارق من حيث الدخل، والابتكارات التكنولوجية المتسارعة والمغيّرة للوظائف، والتي تتسبب لهم في قلق وتوتر مستمرين، ثم الوباء. واليوم، هناك عدد لا بأس به من الزعماء المنتخَبين بشكل ديمقراطي حول العالم باتوا يجدون أن بناء الدعم عبر العزف على وتر القبلية التي تركز على الهوية أسهل بكثير من القيام بالعمل الصعب المتمثل في بناء الائتلافات والتوافقات في مجتمعات تعددية في ظرف شديد التعقيد.
وعندما يحدث ذلك، يتحول كل شيء إلى علامة على هذه الهوية: ارتداء الكمامة في الوباء، التلقيحات ضد كوفيد 19، تغير المناخ. وموقفك من كل نقطة يتضاعف كتحدٍّ للآخرين: هل أنت من هذا الاتجاه أم لا؟ وبالتالي، هناك تركيز أقل على المصلحة العامة، وفي نهاية المطاف، لا وجود لأرضية مشتركة للانتقال إلى الأشياء الكبيرة. وإذا كنا قد وضعنا رجلاً على القمر معاً، فإننا اليوم بالكاد نستطيع الاتفاق على ترميم جسور متهالكة. والمثير للسخرية هو أنه ليس هناك أي مؤسسة في الحياة الأميركية تعمل من أجل تحصين أميركا من «فيروس القبلية» هذا، فضلاً عن إغناء التعددية وتجسيدها، أكثر من الجيش – أي الأشخاص أنفسهم الذين كانوا أكثر عرضة لـ«متحور» الشرق الأوسط لأكثر من 20 عاما.
هذا لا يعني أن بعض منتسبي الجش لم يرتكبوا تجاوزات خاصة بهم في تلك الحرب أو أنهم لم يُصدموا بتجاوزات أعدائهم. فكلاهما حدث، غير أنهم لم يسمحوا لها بأن تغيّر هويتهم الأساسية ونوع الجيش الذي يريدون أن يكونوه. إن الزعامة مهمة: فالسكان الأميركيون لديهم تنوع شبيه بتنوع الجيش الأميركي، ولكن التعددية والعمل الجماعي وروح الفريق التي يُبديها الكثير من عسكريينا، رجالا ونساء، تُقلِّص الانقسامات داخل القوات المسلحة. إنه وضع لا يتسم بالكمال أو المثالية، ولكنه حقيقي وواقعي. فالزعامة الأخلاقية القائمة على التعددية مهمة.
ولهذا، فإن جيشنا هو آخر حامل كبير للواء للتعددية في وقت يختار فيه عدد متزايد من السياسيين المدنيين «القبلية» بتداعياتها السلبية. ولكن المخيف أكثر بالنسبة لي هو إلى أي حد بات فيروس القبلية هذا يصيب الآن بعضا من أكثر الديمقراطيات متعددة الطوائف حيوية في العالم – مثل الهند وإسرائيل، إضافة إلى البرازيل والمجر وبولندا. والهند بشكل خاص تمثّل قصة حزينة بالنسبة لي لأنه بعد 11 سبتمبر، قدمتُ التعددية الهندية على أنها أهم مثال يفسّر لماذا لا يُعد الإسلام في حد ذاته مسؤولا عن دفع إرهابيي «القاعدة» إلى القيام بما قاموا به.
وحاججتُ حينها بأن كل شيء يتوقف على السياق السياسي والاجتماعي والثقافي الذي يوجد فيه الإسلام، أو أي دين آخر – فحين يكون الإسلام موجوداً في مجتمع ديمقراطي متعدد، فإنه يزدهر مثل أي دين آخر. فرغم أنه كانت لدى الهند أغلبية هندوسية كبيرة، إلا أنه كان لديها رؤساء مسلمون وامرأة مسلمة في المحكمة العليا. والمسلمون، بمن فيهم النساء، كانوا حكاما لكثير من الولايات الهندية، كما كانوا من بين أنجح رواد الأعمال في البلاد. ولكن اليوم، للأسف، يتم إضعاف القومية الهندية المبنية على التعددية من قبل البعض في حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم. أن تصاب الديمقراطيات حول العالم بفيروس الانتماءات الضيقة هذا ما كان يمكن أن يحدث في وقت أسوء – في وقت سيتعين فيه على كل مجتمع وشركة وبلد أن يتكيف مع تسارع التحول التكنولوجي والعولمة وتغير المناخ.
وهذا لا يمكن أن يتم بشكل فعّال إلا داخل البلدان وبينها من خلال درجات أعلى من التعاون بين الشركات والعمال والمعلمين ورواد الأعمال الاجتماعيين والحكومات – وليس من خلال «إما الحكم أو الموت» أو «على طريقتي أو لا شيء».
وخلاصة القول إننا في حاجة لإيجاد ترياق لهذه المشكلة بسرعة.
وإلا، فإن المستقبل سيكون قاتماً بالنسبة للديمقراطيات في كل مكان.