زياد عيتاني -أساس ميديا
كلمة المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، وهو أعلى مرجعيّة إسلامية في لبنان، وضعت النقاط على حروف المعادلة، التي تنير طريق الوصول إلى الحقيقة، إنصافاً لدماء الضحايا وبلسمةً لجراح المصابين، ونصرةً لحزن الأهالي المكلومين. فقال في بيانه بلغة الحكمة وعين البصيرة التي لا تحيد عن الحقّ: “إنّ جريمة تفجير مرفأ بيروت هي في الحسابات الأخيرة جريمة العصر، ليس على مستوى لبنان فقط، إنّما على مستوى الإنسانية. ولذلك كان من الضروري أن يلجأ لبنان إلى التحقيق الدولي كما طالب به مفتي الجمهورية ورؤساء الحكومات السابقون والمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى إثر وقوع الانفجار الكارثي لكشف الجناة الحقيقيين. إنّ المجلس الشرعي يدعو إلى رفع كلّ الحصانات من دون استثناء من خلال إصدار قانون جديد في المجلس النيابي، لمنع إدخال هذا الملفّ في الاستنساب والانتقام السياسي، وتأكيداً لِما طالب به مفتي الجمهورية. وأيّ ملاحقة انتقائية لرؤساء أو وزراء أو غيرهم تجعل عمليّة هذه المحاكمة في حالة خلل جوهريّ، وتصبح عملاً من أعمال الاستهداف والانتقام وتجاهل الآليّات الدستورية والقانونية. وهذه الآليّات الدستورية والقانونية ينبغي أن تكون من خلال “المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء” المنصوص عليه في الدستور اللبناني، كي لا يتمّ التعارض مع مضمون الأنظمة والقوانين التي أقرّها المجلس النيابي والمتضمّنة للأسس التي بموجبها يُحاكَم الرؤساء والوزراء في حال مخالفاتهم أو التهاون في مهامّهم. وبذلك تُحفَظ مقوّمات بناء الدولة، ونتجنّب الاستنسابيّات في القضايا العامّة، وبهذا تسلك العدالة طريقها الصحيح”.
إنّ الموقف الصادر عن المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى برئاسة المفتي دريان هو بمنزلة الكلمة السواء الملتزمة بالدستور والقوانين التي يجب أن يتلقّفها كلّ المسؤولين والمهتمّين الحريصين على منع وقوع الفتنة وإخماد نيرانها قبل اشتعالها. إنّ التراخي والتعامي عن هذه الكلمة السواء هما إذكاء لهذه النار التي إن اشتعلت فستأتي على الأخضر واليابس وستحرق الجميع، وبدايةً مَن يقف خلف إشعالها.
موقف المجلس الشرعي الأعلى هو رسالة واضحة إلى الرؤساء الثلاثة وإلى المجلس النيابي والقضاء اللبناني وكلّ القوى السياسية. هو بمنزلة الدعوة للعودة إلى الدستور والالتزام بنصوصه والعمل به لأنّه السبيل الوحيد للخلاص والوصول إلى الحقيقة.
لا كلام بعد كلام دار الفتوى، ولا تذاكي بالعبارات من أيّ مسؤول بعد العبارات الواضحة الصادرة عن هذه الدار الجامعة وسيّدها. الحقّ لا يمكن التنازل عنه بإعلان التمسّك بالعدالة عبر وسائل الإعلام الأجنبية أو المحلّية. والحقيقة لا يمكن تشويهها بإلقاء التهم استنسابياً، وبالاستعراض الشعبوي بمذكّرات التوقيف والاستدعاء. هذا الدستور هو الذي يجمع اللبنانيين، وأيُّ محاولة لخرقه أو لتجاوزه هي تجاوز لضرورة وسبب وجود لبنان كوطن واحد لكلّ أبنائه.
إنّ المرفأ الذي تمّ تفجيره ليس مرفأ مار مارون، ولا مرفأ أبي بكر الصدّيق، ولا مرفأ الحسين بن علي. هو مرفأ بيروت الجامعة لكلّ اللبنانيين والمتنفَّس لكلّ الوطن، التي قصدها أبناء قرطبة والقاع ليعملوا في إطفائيّتها، وجاء إليها أبناء الجنوب ليكسبوا رزق أبنائهم، وحافظ عليها أبناء بيروت لتبقى مدينةً تُنير الوطن. فما كان للبنان الكبير أن يُعلَن لو لم يكن هذا المرفأ رئته وشريانه وقلبه وكلّ ما يجلب إليه الحياة.
الكارثة التي حلّت لم تستهدف طائفة واحدة، ولا مذهباً واحداً، ولا حزباً أو تيّاراً سياسياً، بل استهدفت بيروت ودورها ووظيفتها في الحفاظ على هذا الوطن وديمومته.
إنّ مَن يقف خلف تفجير مرفأ بيروت أراد من عمله أن يُنهي دور العاصمة وريادتها. ويكون إحباط هذه المؤامرة بالوصول إلى الحقيقة وليس باستهداف طائفة ولا زعامات ولا قيادات ولا رموز، ولا بتجاوز الدستور.
إنّ هذه التحقيقات يجب أن يكون هدفها جلاء الحقيقة ومحاسبة المرتكبين، وليس إعلان حرب على رموز كبرى أساسية في هذا الوطن. وهنا تبدو الحاجة الملحّة أمام اللبنانيين للاختيار بين أمرين: إمّا الذهاب إلى الدستور واحترامه، أو الذهاب إلى تحقيق دوليّ حياديّ لا يمكن لأحد التشكُّك في نتائجه.
أما من غاب عن الحضور بالأمس وتجنب تحمّل المسؤولية وحماية الدستور فعليه أن ينتظر جهاز أمن الدولة يدق بابه ليبلغه بمذكرة إحضار، كما حصل بالأمس في منزل الرئيس حسان دياب الغائب في زيارة لولديه في الولايات المتحدة الأميركية.
لقد ختم المجلس الشرعي برئاسة مفتي الجمهورية بعبارة تختصر كلّ شيء، ولا كلام بعد كلام المفتي، ولا عبارة يمكن أن يُختَم بها الكلام أفضل من هذه العبارة التي تقول: “إنّ الانتقاء والاستنساب لا يصنعان عدالةً، ولا يُنتجان حقّاً أو حقيقة”.