رفيق خوري
في أميركا ربح بيل كلينتون معركة الرئاسة بشعار “إنه الاقتصاد يا غبي”. وفي لبنان حافظت المافيا على السلطة وربحت ما خسره الشعب في الانهيار الاقتصادي والمالي بشعار “إنها السياسة، يا غبي”. معركة الحكومة انتهت بصدور المراسيم، لكن المعارك ستستمر داخل الحكومة ومعها حرب النظام. أقل ما كشفته معركة الحكومة هو خطورة السلاح الذي جرى استخدامه فيها.
والأخطر من السلاح هو الأيدي الممسكة به والمستعدة لاستخدامه في أي وقت، بصرف النظر عن أي اتفاق أو تفاهم أو تكاذب مشترك، وسواء كانت الأسباب والدوافع والحوافز والجوائز محلية أو إقليمية ودولية. أي سلاح؟ سلاح التعامل مع المراكز الأساسية في السلطة على أساس أنها للطوائف، لا لشخصيات مستحقة من الطوائف، وحمايتها بالعصبيات الطائفية والمذهبية ومواقف المرجعيات الدينية. فرئاسة الجمهورية مقام ماروني، ورئاسة المجلس النيابي مقام شيعي، ورئاسة الحكومة مقام سني. وأي انتقاد لتصرف أو قرار سياسي لأي من شاغليها يتم اعتباره تهجماً على الطائفة والرد عليه بالمدافع الطائفية والمذهبية.
وما زاد في الخطورة هو التجربة التي نمر بها عبر التسلم بمبدأ مخالف لروح الديمقراطية والتعددية الطائفية والتعددية السياسية داخل كل طائفة وهو “السلطة للأقوياء في طوائفهم”. وهذه وصفة مؤكدة للكارثة، كارثة التعطيل بالفيتو حين يختلف الأقوياء من دون مجال للبحث عن بدائل، وكارثة التفاهم على حساب البلد والناس في الصفقات. ولم يكن خارج التوقعات أن تظهر أوصاف “العهد القوي” و”الرئيس القوي” بعد وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية بتأييد من الأقوياء في طوائفهم باستثناء زعيم واحد. ولا كان غريباً، وسط الانهيارات التي بدأت قبل سنوات وتفاقمت على ساعة العهد الحالي بشكل لا سابق له، أن تبدأ الشكاوى من مبدأ السلطة للأقوياء والمطالبة بالتراجع عنه.
لكن الواقع أن توصيف “الرئيس القوي” تعرض لنوع من الديماغوجية وشيء من سوء الفهم. فالمشكلة ليست مع “الرؤساء الأقوياء” بل مع “الرؤساء الزعماء”. والرئيس القوي ليس الذي وراءه جمهور كبير في طائفته والمستقوي على معظم اللاعبين السياسيين بدعم طرف قوي في طائفة أخرى، لأن مثل هذا مشروع أزمات مستمرة. الرئيس القوي هو القوي بالوفاق الوطني، و”المعتدل” الذي يتمسك بالدستور وينفتح على الأحزاب والشخصيات من منظور وطني، ويعمل على تسوية الخلافات بين اللاعبين، ويصر على إيجاد حلول لمشاكل البلد. وبهذا المعنى، فإن أقوى رئيس عرفه لبنان كان الرئيس فؤاد شهاب الذي بنى مؤسسات الدولة. والرئيس القوي على خطاه هو الرئيس إلياس سركيس الذي جاء في أخطر ظروف الحرب واتُّهم بأنه “ضعيف”، لكنه حافظ على الأمانة وإدارة الشأن العام، وأصر على سياسة التمسك بسيادة لبنان على الرغم من الوجود العسكري والحسابات السياسية للتنظيمات الفلسطينية وقوات الردع السورية والاجتياح الإسرائيلي.
أما الأحداث الكبيرة، فإنها حصلت في عهود “الرؤساء الزعماء”. الرئيس الأول الاستقلالي بشارة الخوري الذي كان مع رئيس الحكومة رياض الصلح من زعماء الاستقلال، اضطر إلى الاستقالة تحت ضغط ثورة بيضاء. الرئيس كميل شمعون واجه في نهاية عهده أحداث 1958 الدامية. الرئيس سليمان فرنجية اندلعت في عهده حرب لبنان الطويلة. الرئيس بشير الجميل جرى اغتياله. والرئيس ميشال عون وصل لبنان في عهده إلى “جهنم” وسط تنامي الهيمنة الإيرانية على البلد.
ولا أحد يعرف كيف تنتهي حرب النظام الذي لا يزال، على ضعفه وثغراته، أقوى نظام في المنطقة. لكن بداية التسويات هي التراجع عن مبدأ السلطة للأقوياء في طوائفهم والتوقف عن اعتبار المراكز الرئاسية للطوائف لا للشخصيات. والباقي هو العمل للخروج من الهاوية لبدء مسار إنقاذي طويل ومتعرج، يأخذ كما يقول الخبراء بين عشر و20 سنة للتعافي.
المصدر: اندبندنت عربيّة