لبنان المعلّق بين موتيْن مؤجّليْن

لبنان المعلّق بين موتيْن مؤجّليْن

عبد الستار اللاز -أساس ميديا- الأحد 19 أيلول 2021
كان ذلك في الرابع والعشرين من أيلول 2014 في نيويورك. لقاء على هامش أعمال الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة بين رئيس الوزراء اللبناني تمّام سلام والرئيس التركي رجب طيب إردوغان. في هذا الاجتماع، الذي تسنّى لكاتب هذه السطور حضوره، فاجأ سلام أعضاء الوفدين اللبناني والتركي بتناول موضوع العلاقات بين القاهرة وأنقرة، البالغة السوء يومذاك. عرض وجهة نظر متكاملة حول ضرورة إنهاء القطيعة بين الجانبين، وأهمّية التقارب بين قوّتين إقليميّتيْن، مثل مصر وتركيا، والفوائد السياسية والاقتصادية التي يمكن أن تتأتّى منه للبلدين والمنطقة وللأمن والاستقرار فيها.
كان سلام قد فاتح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في اليوم السابق برغبته في القيام بهذه الخطوة. لم يمانع السيسي محاولة إقناع إردوغان بأن “يفكّ عن مصر شوية ويسيبنا في حالنا”، ولو أنّه أكّد عدم اقتناعه بإمكان نجاح المسؤول اللبناني في مسعاه.

اتّضح أنّ الرئيس المصري على حقّ. كان جواب إردوغان حاسماً، وجاء فيه أنّ تركيا عانت كثيراً في تاريخها الحديث من الانقلابات العسكرية، وأنّ ما جرى في مصر ليس له تعريف سوى أنّه انقلاب عسكري، و”نحن لسنا على استعداد للتعامل مع انقلابيين وصلوا إلى السلطة على الرغم من إرادة الشعب المصري”.

دار الزمن دورة كاملة، وها هم الناشطون المصريون من الإخوان المسلمين، الذين لجأوا إلى إسطنبول منذ 2013، يشدّون الرحال إلى مكان آخر بعدما أُسكِتت منابرهم الإعلامية المعادية للنظام المصري. وها هي الاجتماعات بين مسؤولين من البلدين تجري، ولو بوتيرة بطيئة وبخطوات حذرة، وسط حديث عن عدم استبعاد استئناف العلاقات الدبلوماسية بين مصر وتركيا قريباً.

إنّها بداهة السياسة في كلّ زمن، حيث تتقدّم المصالح العليا غالباً على الشعارات، التي تسقط رنّانة عند أوّل منعطف أمام الوقائع وموازين القوى. ما كان مستحيلاً بالأمس يصبح ممكناً اليوم، وجدران العداوات الراسخة تنقلب موائد تفاوض وبيع وشراء وتشريح للخرائط. وإلّا فكيف يُفسَّر التواصل الأمني التركي-السوري الذي يجري الإعداد له برعاية عراقية، والاجتماعات السعودية-الإيرانية، وفتح الخطوط بين أنقرة وبين الرياض وأبو ظبي، والتنسيق المصري-الأردني-العراقي، والتفاهمات الروسية-الإسرائيلية، والفرنسية-الإيرانية.

كُتِب الكثير عن هذا الغليان السياسي غير المألوف، وتعدّدت النظريات التي لا يمكن المجازفة بترجيح أيّ منها من دون إرفاقها بألف سؤال وسؤال. فهل نحن أمام ضباب مخادع لن تلبث الأمور بعده أن تعود إلى سابق عهدها، أم نحن أمام خلط للأوراق وإعادة صياغة للمشهد السياسي الإقليمي؟ هل هناك نوع جديد من علاقات الجوار تفيد الأمن والاستقرار في الإقليم أم هناك تكريس لموازين قوى تقوم على الغلبة والكيد؟ وماذا عن شعوب هذا المشرق العربي الفاقدة الصوت واللاهثة وراء أبسط مقوّمات الحياة في أوطان ليست كالأوطان؟

لكن يبقى سؤالنا الأكبر هو لبنان. الواحة الأخّاذة التي صارت مخيّماً للبؤساء الفاقدين الحيلة والأمل، والمنارة المتوهّجة التي حُجِب ضوؤها منعاً للفرح وتعميماً للسواد، والذات الكريمة وقد باتت روحاً كسيرة تبحث عن الرمق بين النفايات. لبنان المهيض الجناح المتروك على مائدة اللئام رهين موتين مؤجّلين.. موت يكاد يكتمل على أيدي منظومة محليّة جمعت الفساد وعدم الكفاءة وقلّة المسؤوليّة إلى التفاهة والغطرسة وانعدام الأخلاق والرحمة، وموت زاحف من الخارج والداخل محمَّلاً بجبال من الغيبيّات وبأثقال قرون سحيقة، ليُكمِل بلبنان محور العبث وهلال الخراب العميم.

وبين هذا وذاك أشقّاءٌ عربٌ دفعهم ما تعرّضوا له من أذى من على منبر الشتائم اللبناني إلى غيبة كبرى غير مألوفة عن لبنان، وأصدقاء غربيّون، كبيرهم الأميركي لا يملك، ولا يهمّه أن يملك، أيّ رؤية للغد في هذه المنطقة من العالم. يتطلّع إلى ساعة يده لمعرفة الوقت مستعجلاً التوصّل إلى اتفاق مع خصوم دهاة، والانسحاب سريعاً للانصراف إلى أمور أكثر أهميّة من حروب الطوائف والقبائل التي لا تنتهي. أمّا الجواب الخبيث فيأتيه من خصمه: الوقت لك تصرَّف به كما تشاء، نحن لدينا الزمان وصاحب الزمان.

وعلى الرغم من كلّ ذلك يبدو أنّ القرار بالقتل الرحيم بحقّ لبنان لم يُؤخذ بعد. سارعوا جميعاً وبقدرة قادر إلى تزويده بجرعات من الأوكسجين لإبقائه على قيد الحياة. حكومة جديدة بعد طول انتظار، ومشاريع استجرار غاز، ودعم للجيش اللبناني، ومشتقّات نفطية إيرانية، وخلاف ذلك ممّا يوحي أنّ المعركة لا تزال مديدة.

ماذا يتعيّن علينا أن نفعل، نحن أهل المريض وناسه، بعدما فقد كلّ الكلام السياسي معناه؟

الزميل قاسم قصير كتب في “أساس” أنّ لبنان دخل مرحلة جديدة تتطلّب إعادة نظر في كلّ الشعارات التي اُستُعملت في المعارك السياسية في السنتين الماضيتين، مثل الدعوة إلى الانتخابات النيابية المبكرة وإسقاط ميشال عون. ربّما يكون هذا الكلام سليماً لو لم يُضِف إليه أنّ شعار مواجهة النفوذ الإيراني بات أيضاً غير واقعيّ لأنّ نفوذ طهران كان له دور إيجابيّ في تشكيل الحكومة وكسر الحصار عن لبنان..

كلّا يا زميلي الكريم. نفوذ الدول الكبرى لدى الدول الأصغر والأضعف، هو بمعناه الإيجابيّ ترجمة لروابط اجتماعية وعلاقات سياسية واقتصادية ومصلحيّة مرغوبة من الطرفين، وأساسها الفائدة المشتركة والتناغم والمساعدة والودّ. بغير ذلك يصبح ما يُسمّى نفوذاً عمليّة قهرية على غرار ما ذاقه اللبنانيون من نفوذ سوري في بلادهم، وما شهدوه من نفوذ إيران التي عطّلت تشكيل حكومة تمّام سلام أحد عشر شهراً قبل أن تُعطي الضوء الأخضر بعد اتّفاقها مع الأميركيين، ثمّ عطّلت انتخاب رئيس للجمهورية عامين ونصف عام إلى أن جيء بمرشّحها إلى قصر بعبدا، وقبضت على السياسة الخارجية اللبنانية عبر حلفائها لتعزل لبنان عن محيطه العربي وتضعه في موقع العداء لأشقّائه، وفي مقدّمهم المملكة العربية السعودية.

إيران دولة بالغة الأهمّية، ذات حضارة إنسانية عظيمة، لكنّ نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية هو آلة قتل وتخريب لبلاد العرب. والقبول بترسيخ ما يُسمّى النفوذ الإيراني في بلادنا يعني الاستسلام لإعدام لبنان بما هو فكرة ونمط حياة.

البديل مرّة أخرى هو مواجهة وطنية سلمية سيادية واسعة مع هذا النوع من النفوذ ومتفرّعاته. ولهذا البحث صلة.

 

Exit mobile version