واشنطن تبيع حلفاءها: ماذا عن العرب؟
عماد الدين أديب -أساس ميديا
العالم اليوم يعيش صياغة سياسات الواقعية الجديدة، أي سياسات خدمة المصالح الذاتية بشكل انتهازي غير أخلاقي يصل حدّ التوحّش. بالمقابل يعيش العرب في غيبوبة سياسات الشعبوية الظلامية، التي تقول ما يرضي، لكنّها لا تحقّق شيئاً على مستوى الفعل والإنجاز.
واقعية مصلحية عالمية، مقابل غيبوبة شعبوية في العالم العربي، والنتيجة المنطقية هي خروج العرب من إدارة شؤون منطقتهم لمصلحة القوى غير العربية الثلاث (تركيا، إيران، إسرائيل) وأدواتها.
الواقعية الجديدة بكلّ وحشيّتها لها دلالات وعلامات عمليّة على أرض الواقع يمكن رصدها في التالي:
1- اختطاف الولايات المتحدة وبريطانيا صفقة القرن الخاصّة بالغوّاصات من فرنسا، وإعلان أستراليا استبدال الصناعة العسكرية الفرنسية بتحالف أميركي- بريطاني تحت عنوان أن استراليا تقع في آسيا وأنها الأقرب إلى التأثير في السياسة الصينية بسبب عضويتها في تحالفات اسيوية مع اليابان وغيرها من دول المنطقة.
لاحظ أنّ الذي أعلن ذلك هو الرئيس بايدن الديموقراطي الذي أكّد منذ عام أنّه سوف يسعى إلى إحياء حلف الأطلنطي والتعاون مع الاتحاد الأوروبي.
لاحظ أنّ بريطانيا تركت الاتحاد الأوروبي، فيما فرنسا من ضمن كبار لاعبيه.
2- الخروج المرتبك للولايات المتحدة من أفغانستان، وتسليم البلاد لطالبان.
3- غضّ النظر العالمي عن الوجود الروسي في سوريا، والتسليم بوجودها.
4- غضّ النظر عن الاحتلال التركي لسوريا والعراق، والوجود الخطر في ليبيا.
5- شكوى واشنطن من انتهاك حقوق الإنسان في مصر والسعودية، فيما تسعى الإدارة نفسها إلى التعاون وإعادة التأهيل مع إيران ذات السجلّ المخيف في انتهاك حقوق الإنسان وممارسات الاستبداد.
6- السعي إلى استبدال الوجود المحسوس لواشنطن في الشرق الأوسط، وفي منطقة شطّ العرب والخليج العربي، بوجود في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، واعتبارها منطقة المصالح العليا الأساسية، بهدف تقليص وإضعاف نفوذ كلّ من بكّين وموسكو.
إذن نحن أمام عالم جديد تماماً أصبح يمارس سياسة متوحّشة تحترم المصالح الذاتية بشكل فجّ، لا يعرف ولا يعترف بمصالح الغير، ولا يسعى إلى تنسيق الخلافات أو تنظيم التناقضات. فليذهب، وفق هذه السياسة، الجميع إلى الجحيم. المهمّ والأهمّ هو تحويل كلّ سلوك سياسي إلى خدمة منهج جوهري يعتمد على إيقاف نزف بسبب خسائر وتحقيق أرباح وفوائد مهما كانت التنازلات ومهما كانت التكاليف، بصرف النظر عن كون الضحايا من أهمّ الحلفاء. فواشنطن تذبح الحلفاء من دون أن تذكر اسم الله قبل الذبح.
ذبحت عرب المنطقة، وذبحت قبل ذلك الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
والآن تذبح فرنسا مقابل صفقة غوّاصات بـ 150 مليار دولار.
قال وزير الخارجية الفرنسي، الذي كان يستعدّ لإقامة احتفال كبير هذه الأيام لمناسبة توقيع الصفقة مع أستراليا، في غضب شديد: “لقد تلقّينا طعنة في الظهر”، واعتبر ما حدث خيانةً من الحلفاء. ثم استدعت باريس سفيريها في أميركا واستراليا.
ظهر الغضب الأوروبي من الطعنة الأميركية-البريطانية-الأسترالية في تصريح مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل.
“إنّ اتّفاقاً من هذا النوع لم يجرِ إعداده أمس الأول. إنّه يستغرق وقتاً. لم يتمّ إبلاغنا به، ولم تتمّ استشارتنا حوله”.
الشيء عينه تكرّر في الانسحاب من فيتنام الجنوبية، الذي تمّ من دون تنسيق مع الحكومة الموالية. وتكرّر مع شاه إيران الذي أرسل له جنرالٌ أميركيّ صديقٌ نصيحةً بمغادرة طهران. وحدث مع الرئيس حسني مبارك حينما تمّ إرسال سفير أميركي سابق يبلغه بضرورة التنحّي. وحدث مع حكومة كوريا الجنوبية حينما اكتشفت حوارات سرّية بين إدارة ترامب وزعيم كوريا الشمالية. وحدث أخيراً عندما انسحبت واشنطن من كابول دون أن تخبر المتعاونين معها بتاريخ الانسحاب وترتيباته.
ها هي واشنطن تراهن على بريطانيا، التي انسحبت من الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أنّ بايدن ظلّ يردّد في جولته الرئاسية دعم وإحياء العلاقات مع الاتحاد.
وها هي واشنطن تبيع فرنسا ذلك الحليف الذي قاتلت من أجله ومن أجل تحريره على شواطىء النورماندي في الحرب العالمية الثانية.
وقبل ذلك اكتشفت السيدة أنجيلا ميركل أنّ أجهزة الاستخبارات الأميركية قامت باختراق أجهزة اتصالاتها الشخصية للتجسّس عليها.
وها هي واشنطن تسعى الآن إلى إبرام اتفاق مع إيران بأيّ ثمن مختلفةً في ذلك مع تل أبيب التي ترفض مبدأ تنظيم القدرة النووية الإيرانية، بل تصرّ على إنهاء المشروع النووي الإيراني نهائيّاً.
باختصار، نحن في عصر الجميع يبيع الجميع، من أجل مصالح ذاتية انتهازية غير مبدئية وغير أخلاقية.
المذهل أنّ كلّاً من البيت الأبيض وعشرة داوننج ستريت يعتبران أنّ الصفقة ليست موجّهة ضد أيّ حليف، لكنّها تهدف إلى تحقيق الاستقرار في تلك المنطقة، كأنّ شيئاً لم يحدث، وكأنّ لندن وواشنطن لم تقوما بقرصنة اتفاق الغواصات من باريس.
اللاعب العربي الأكثر تفهّماً لهذه المتغيّرات الجوهرية هو الشيخ محمد بن زايد الذي كان موجوداً في المكان المناسب في توقيت عبقري، إذ كان في باريس ولندن في ساعات الإعلان عن صفقة الغواصات الأسترالية.
كان وليّ عهد أبوظبي لدى الخاسر (ماكرون) كي يعقد معه اتفاقات تجارية وعسكرية بأفضل الشروط، أو كان مع الفائز (جونسون) كي يدعم مصالح بلاده مع حليف استراتيجي لدولة الإمارات منذ عام 1971.
ثلاثة أمور جوهرية علينا أن نعكف على استيعابها الآن:
1- فهم حقيقة قواعد اللعبة القائمة على دراسة معهد “راند” الأميركي التابع لوزارة الدفاع الأميركية، الذي يسمّي سياسة واشنطن الجديدة “بالواقعية الجديدة”.
إنّها واقعية لا علاقة لها بشخص الرئيس ولا بنوعيّة حزبه. إنّها سياسة تقوم على التخلّي عن أيّ سياسة، وبيع أيّ حليف، ومصادقة أيّ عدو، ما دام ذلك سيؤدّي إلى تعطيل صعود بزنس وقوى بكين وموسكو.
2- إيجاد قوى العالم العربي، وبالذات القوى المعتدلة الأساسية فيه (مصر، الإمارات، السعودية، الأردن، المغرب، البحرين والسودان)، لنفسها مكاناً ومكانةً في المعادلة الدولية الجديدة لعالم مرتبك في حالة سيولة جديدة يعيد تشكيل نفسه متجاوزاً اتفاقات سيفر وسايكس بيكو وفيينا ولندن وفيلا ديفنتوك، وما بعد سقوط حائط برلين، واتفاقات الصواريخ مع موسكو، والتجارة مع الصين.
كلّ تلك الاتّفاقات الآن في مهبّ الريح، وهناك اليوم سعي دؤوب إلى زواج جديد بعقد ومهر جديدين!
3- الخروج الأميركي من المنطقة، الذي سيؤدّي إلى انعدام نفوذ وارتباك قوى وخلل في التوازنات، يجب أن لا يتمّ ملؤه بواسطة قوى غير عربية (تركيا، إيران، إسرائيل) وأدواتها المحلية.
هذا الفراغ يجب أن تملأه قوى الاعتدال العربي بقوّة.
إن لم نفهم ما يحدث، وإن لم نتحرّك، هلكنا وتحوّلنا إلى دويلات مستضعَفة فاقدة الإرادة خارج التاريخ.
هذه هي الولايات المتحدة سابقاً و تلك هي إدارة بايدن الحالية قامت بتسمية التخلّي عن الحلفاء ربيع الأصدقاء، والمزايدة على المصالح الإستراتيجية تحت مسمى علمي هو الواقعية الجديدة المهم أن نفهم قواعد اللعبة الجديدة.