الدكتور رضوان رشدي: إشكالية الشرعية السياسية في المسألة الأفغانية
sara
الدكتور رضوان رشدي
فوجئت البارحة ببيان للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يهنؤون فيه زعيم حركة طالبان الملا محمد حسن آخوند بالثقة التي حظي بها من قبل الحركة وغيرها من الأطراف الأفغانية بتكليفه رئاسة الحكومة الجديدة، ويؤكدون على أن هذه الثقة تعكس ما يتمتع به الشيخ آخوند من خبرة ومكانة، ويتطلعون في آن واحد لأن تقدم الحكومة الجديدة نموذجاً إسلامياً للحكم الرشيد الذي أقامه رسول الرحمة والخُلق العظيم، وخلفاؤه الراشدون…
هذا البيان هو في نظري تقديم لصك من صكوك الشرعية السياسية للحركة المتغلبة في أفغانستان، ويوضح بجلاء تبعية مؤسسة الفقهاء للسلطة السياسية كيفما كان نوعها، وهو موقف ضارب في الزمن ولم يشذ عنه إلا القليل من الفقهاء كالعز بن عبد السلام.
وبغض النظر عن تبعية الاتحاد العالمي للسياسة القطرية وانتصابه أداة من أدوات التأثير الإقليمي أو العالمي لهذه الدولة، فإن الإشكال يكمن في ذاته وماهيته… ذلك بأن المؤسسين له وغالب أعضائه إنما هم من الإخوان المسلمين أو من بعض الحركات الإسلامية، و فيه من نظروا للسياسة الرشيدة وقعدوا للحكم المبتغى، ورفظوا إعطاء الشرعية السياسية للنظم التي تأسست على الأشلاء والجثث والاحتراب والاقتتال الداخلي. مما يدل على أن بيانهم يشي بغلبة المصالح العاجلة، ولا يدل على المبادئ التي ادعوا الأخذ بها في ديدن السياسة الرشيدة.
ثم إن المتتبع للشأن الأفغاني منذ الاحتلال السوفياتي إلى الآن، سيجد صورة أناس سموا أنفسهم بالمجاهدين الأفغان، وهم يخوضون صراعا مريرا ضد المحتل، وكم كانت فرحة السذج حينها – وأنا منهم- حين أعلن اندحار السوفييت ودخول (المجاهدين) العاصمة كابل لإقامة الدولة الإسلامية الموعودة…لكن الذي طرأ بعدها إنما هو دخول هؤلاء (المجاهدين) صراعا أوليا فيما بينهم، ثم صراعا بينهم وبين حفظة للقرآن سموا أنفسهم بطالبان…ليحسم الصراع الدموي أخيرا لصالح طالبان التي ستسير شؤون البلاد باجتهادات فقهاء أحناف، وستضع أسامي من قبيل أمير المؤمنين لحيازة الشرعية السياسية…
ومشهد الاقتتال الداخلي هذا سيعود ثانية بعد خروج القوات الأمريكية، وستعلن طالبان نفسها مؤسسة لإمارة إسلامية، ومنصبة زعيمها رئيسا للحكومة…
إن فعل طالبان هو فعل جميع القبائل التاريخية التي كانت لها شوكة وقوة وغلبة استطاعت بالحروب الطاحنة الداخلية أن تؤسس لدولة القبيلة، وتفرض تصورها الإيديولوجي على الرعية الطائعة ابتداء من قبيلة الأمويين إلى الآن …
والذي كان ساريا في تلك اللحظات إنما هو تماهي الفقهاء مع القبيلة المتغلبة وإعطاؤها شرعية سياسية حفاظا على ما قالوا بيضة المسلمين وحماهم …
وهذا الفعل في نظري، وهو التأسيس الإيديولوجي لحكم المتغلب وإلباس خروجه المسلح لبوسا شرعيا باستساغته وقبوله دينيا، هو الذي كان قاصمة للأمة كلها وسببا في امتداد حكم القبيلة المتغلب بتمهيدها عسكريا للبلدات المناوئة ونهبها لأرزاق الناس.
ومسألة استيعاب المخالف في نظم القبائل المتغلبة هو مجرد وهم في نظري، لأن الذي قاتل الآخر وسعى لاستئصاله، لن يفسح له المجال ثانية لحضوره بعد التغلب، بل الذي سيكون واقعا إنما هو ترؤس وتأمر وإخضاع للمغلوب.
أما ادعاء تحكيم الشريعة في مثل هكذا نظم، هو ادعاء كاذب، لأن العقل ينفي حضورا لقوانين تنظم المجتمع الإنساني قيميا من قبل واحد خرج على الناس بقوة السلاح وقَتَّلهم ونصب نفسه فيهم واعظا والتف حوله الفقهاء المذعنون والمسبحون بحمده.
نعم قد يأتي هذا الفعل وهو التسويغ وإعطاء الشرعية للغالب المتغلب من قبل مؤسسة الفقهاء العتيقة، لكنه ما لا يفهم حقيقة إنما هو انتصاب مفكري الحركة الإسلامية أو منظري الإسلام السياسي ليقفوا على درجة واحدة مع الفكر التقليداني المتماهي مع نظام القبيلة المتغلب.
فلا عجب أن تجد تلك الحركات على مستوى التجريد سقوطا مدويا في رؤيتهم أو التأسيس لدولة الحقوق والحريات، وستجد على مستوى التجسيد فشلا ذريعا في تسيير مؤسسات الدولة الديمقراطية، لأنها مشدودة إلى التاريخ وإكراهاته وما انبثق عنه من أعراف في أنساقه سواء كانت أعرافا فقهية أو كلامية أو صوفية.
والناظم الجامع لتلك الأعراف إنما هو التساوق مع واقع الإخضاع والقهر السياسي بسبب الخروج المسلح للعصبة القبلية، مما سيولد سياسة شرعية تحاول اصطباغ اقتتال القبيلة وفضاعاتها مع ما يسمى بالشريعة الإسلامية التي كان العقل الفقهي المتماهي الخاضع فيها حاضرا.
إن التنظير المتوازن في نظري للدولة من منظور شرعي لابد وأن يستحضر قوانين الاجتماع الإنساني المسطرة في القرآن وتسيير النماذج الإنسانية الناجحة فيه للشأن السياسي كاستحضار سياسة داود وسليمان وملكة سبأ وقوة الدفاع النبوي في الأحزاب ودستور المدينة الذي استوعب الناس بغض النظر عن معتقداتهم، والحرية السياسية التي كانت في السقيفة وبيعة الاختيار التي كانت داخل المسجد وتقويم الناس الحر للفعل السياسي للراشدين … وهكذا فلا شريعة دون حرية وكرامة إنسانية، أما الشريعة التي تسوقها قبيلة التغلب، فهي شريعة الغاب التي تشرعن للتفاوت الطبقي بين القوي المتغلب والخاضع الخانع.