“قناص مُحوسب” يُطلق 600 رصاصة في الدقيقة: هكذا اغتال الموساد “أبو القُنبلة” في إيران
المصدر: واي نت
روبوت آلي مدعوم بالذكاء الاصطناعي مع كاميرات تزود مركز التحكم بزاوية رؤية لآلاف الكيلومترات في كُل اتجاه: هذا ما كشفت عنه نيويورك تايمز – حول اغتيال “إسرائيل” للعالم النووي الإيراني الكبير “مُحسن فخري زاده”.
أصر العالم النووي الكبير على القيادة بمفرده مع زوجته وفي تلك الاثناء جلس القتلة في مركز تحكم سري على بعد آلاف الأميال، حيث قاموا بتجميع الآلة الأوتوماتيكية التي يتم التحكم فيها بواسطة الأقمار الصناعية سراً داخل إيران من خلال أجزاء تم تهريبها واحدة تلو الأخرى على مدى فترة طويلة، صحيفة نيويورك تايمز كشفت اليوم (السبت) تفاصيل جديدة لعملية اغتيال محسن فخري زادة العالم النووي الإيراني البارز الذي وصفته الجمهورية الإسلامية بـ “أبو القنبلة”.
قُتل فخري زاده بالرصاص أثناء قيادته لسيارته جنوب طهران في تشرين الثاني (نوفمبر) 2020- في عملية منسوبة إلى الموساد كما ذكرت صحيفة التايمز – في مقال مُوقع من قبل مُراسل يديعوت أحرونوت رونين بيرجمان ومُراسل التايمز الإيراني في إيران فرانز بيسيحي، وبُمشاركة ثلاثة من مُراسلي الشؤون الاستخبارات -في واشنطن- فكيف تمكن الموساد من اغتيال فخري زاده وهو هدف رئيسي لأكثر من 14 عام؟
فخري زاده الذي يعُتبر من كبار العلماء النوويين في إيران، والذي ترأس “مشروع عماد” الذي يهدف بحسب “إسرائيل” والغرب إلى تطوير أسلحة نووية، على الرغم من إغلاق المشروع في عام 2003 زعم رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو في خطابه عام 2018 – أن أرشيف إيران النووي السري كشف- أن فخري زاده استمر في لعب دور رئيسي في برنامجها النووي وفي مُحاولاتها لتطوير أسلحة نووية، وقال نتنياهو في ذلك الوقت: “تذكروا هذا الاسم”.
وبحسب تقرير نشرته صحيفة التايمز فإن اسم فخري زاده ظهر في محادثات بين “إسرائيل” والأمريكيين في عهد رئيس الوزراء إيهود أولمرت في عام 2008، ورد أن أولمرت قدم إلى الرئيس آنذاك جورج دبليو بوش، الذي كان يزور القدس تسجيلاً لمُحادثة، ووفقاً لمصادر “إسرائيلية” جرت قبل فترة وجيزة -حيث سمع فخري زاده وهو يتحدث إلى أحد زملائه، وبحسب ثلاثة مصادر معنية بتفاصيل التسجيل تحدث فخري زاده صراحة عن مساعيه المُستمرة لتطوير رأس حربي نووي- في تناقض صارخ مع النفي الرسمي لإيران التي تزعم أن لديها أهدافًا مدنية فقط لبرنامجها النووي، وأكدت التايمز أنها لا تستطيع تأكيد وجود التسجيل ورفض المُتحدث باسم جورج بوش التعليق.
في كلتا الحالتين كان فخري زاده هدفاً رئيسياً للاغتيال من قبل الموساد لسنوات عديدة -وفقاً للتايمز-، جرت عدة محاولة سابقة لاغتياله، ففي عام 2009 أُلغيت في اللحظة الأخيرة عمليه اغتيال له، حيث كان فريق الاغتيال وقتها ينتظر فخري زاده في مكان ما في طهران لكن الخطة أُلغيت عندما اشتبه الموساد في أن إيران علمت بها – وأعدت لهم كميناً مُسبقاً، وفقاً للتقرير ففي عام 2012 أوقفت “إسرائيل” محُاولاتها للقضاء على فخري زاده وأيضاً عُلماء نوويين آخرين بسبب المُفاوضات التي فتحها الرئيس باراك أوباما، والتي أدت في عام 2015 إلى الاتفاق النوويـ ومع ذلك عندما انسحب خليفته دونالد ترامب من الاتفاقية في 2018 استأنفت “إسرائيل” عملياتها ضد البرنامج النووي الإيراني وسعت لمحاولة اغتيال العالم الكبير.
وفقاً للتقرير فقد بدأت الاستعدادات لعملية الاغتيال بسلسلة من الاجتماعات في أواخر عام 2019 وأوائل عام 2020 بقيادة “مسؤولون إسرائيليون” بقيادة رئيس الموساد آنذاك يوسي كوهين ومسؤولون أمريكيون بمن فيهم الرئيس ترامب نفسه ووزير خارجيته مايك بومبيو، ثم رئيسة وكالة المخابرات المركزية جينا هاسبيل، وقال مصدر أمريكي كان حاضراً آنذاك في أحد الاجتماعات للصحيفة إن الأمريكيون الذين اطلعوا على خطة الاغتيال مُتحمسون لها.
نالت الخطة مزيداً من التشجيع في ظل حقيقة أنه بعد اغتيال قائد فيلق القدس سليماني في غارة جوية أمريكية في العراق في يناير 2020 ولم ترد إيران بأفعال انتقامية قاسية بشكل خاص كما كان يخشى البعض في الولايات المتحدة و”إسرائيل”، لقد فهم المُخططون أنه إذا أمكن القضاء على أحد كبار القادة العسكريين في إيران دون رد فعل مضاد كبير فمن المُحتمل ألا تكون طهران مُستعدة أو لن تكون مُستعدة للرد بحدة.
وبحسب التقرير فإن السبب الآخر الذي أدى إلى تسريع تنفيذ خطة الاغتيال هو التفهم في “إسرائيل” بأن ترامب قد لا يفوز في الانتخابات الرئاسية وأنه في ظل حكومة جو بايدن الديمقراطية التي دعت إلى العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وأن “إسرائيل” لن تحصل على مظلة أمريكية بعد الاغتيال.
على عكس اغتيالات العلماء السابقين في إيران والتي كانت تتم أحياناً بمُساعدة راكبي الدراجات النارية الذين فتحوا النار وفروا بسرعة، هذه المرة تم رفض مثل هذه الخطة على الفور: لقد تعلم الإيرانيون درساً من اغتيال سليماني لأنهم علموا أن فخري زاده على قائمة الاغتيالات الإسرائيلية.
وبحسب صحيفة التايمز فإن وحدة النخبة في الحرس الثوري والتي تُسمى “أنصار” هي التي أمّنت العالم النووي الكبير ورافقه رجالها في رحلاته في قوافل من أربع إلى سبع مركبات وقاموا بتغيير مساربهم ومواعيد سفرهم لإحباط هجمات مُحتملة.
وأفادت التقارير أن مُخططي الاغتيال فكروا أولاً في تفجير “شاحنة جهنم” في طريقهم إلى فخري زاده لمفاجأة القافلة والسماح للقناصين بضرب العالم، وقد تم إسقاط هذا الاقتراح خوفاً من تبادل إطلاق النار الذي قد يؤدي إلى وقوع إصابات: ووفقاً للتايمز فإن “وكالة المخابرات الإسرائيلية” لديها قاعدة لسنوات عديدة مفادها “لا مهرب.. لا عملية” – أي أن الخطة يجب أن تضمن السلامة للنشطاء بشكل ضروري.
وبدلاً من ذلك قرر مُخططو الاغتيال تطوير ما تم وصفه في صحيفة التايمز بأنه “قناص محوسب” والذي تم التحكم فيه عن بعد عبر الأقمار الصناعية من مركز تحكم في منشأة سرية على بعد آلاف الأميال، لكن مثل هذه الطريقة فإن القضاء الدقيق عن بعد بطريقة تمنع وقوع إصابات أخرى غير الهدف جلبت معها قائمة طويلة من التحديات.
يُزعم أن مسؤولي الموساد اختاروا نموذج خاص للمدفع الرشاش البلجيكي FN MAG ووضعوا عليه آلية روبوتية مُعقدة، آلية جعلته مشابهاً نسبياً لمنشأة إطلاق نار آلي طورتها شركة تصنيع الأسلحة الإسبانية Escribano والتي تُسمى Sentinel 20.
تزن آلة النار الآلية هذه بجميع أجزائها المُختلفة طن واحد، ومن أجل إدخالها إلى إيران تم تفكيكها إلى أكبر عدد ممكن من الأجزاء الصغيرة، وتم تهريبها واحدة تلو الأخرى إلى الجمهورية الإسلامية، تمت إعادة تجميع الأجزاء في الخفاء، وتم تركيب الروبوت على شاحنة صغيرة من طراز إيراني شائع يُسمى “زمياد”، وجرى تفخيخها بالمتفجرات من أجل تدميرها بعد الاغتيال، كانت آلة الرماية مموهة في شاحنة بالقماش المُشمع ومواد البناء، وقد زودت الكاميرات المُثبتة في السيارة المُشغلين عن بعد بزوايا رؤية في كل اتجاه.
خشي مخططو الاغتيال من أن المدفع الرشاش الذي يُمكنه أن يُطلق 600 رصاصة في دقيقة واحدة قد يتسبب في اهتزازات في الشاحنة التي كان من المُقرر أن تقف على جانب الطريق وتنتظر قافلة فخري زاده، ومن المُمكن أن تغُير مثل هذه الهزات مسار الرصاص وبالتالي منعهم من ضرب الهدف والقضاء عليه.
وقد يؤدي التأخير المُتوقع في التشغيل عن بُعد للروبوت إلى إضعاف كفاءة التصوير، وقد جاء حل هذه المشاكل عن طريق برنامج ذكاء اصطناعي والذي عوّض التأخير والتقلبات المُتوقعة في السيارة بعد إطلاق النار القوي.
كما طُلب من المُخططين تحديد فخري زاده على وجه اليقين قبل اغتياله، وقد أشارت التايمز إلى أن “إسرائيل” ليس لديها قُدرات استخبارات جوية في إيران كما هو الحال في قطاع غزة، حيث استخدم القتلة حيلة ذكية بدلاً من ذلك: خطة “حدوة الحصان” قبل دخول منطقة المدينة بمسافة ميل تقريباً، حيث تم تركيب كاميرا في هذه السيارة.
وبحسب وكالة أنباء الإيرانية فقد جرت العملية يوم الجمعة 27 نوفمبر عند شروق الشمس، وأبلغ “الإسرائيليون” الأمريكيين بالبدء بها، وبحسب التقارير الواردة من إيران فقد اكتشف المُحققون في الاغتيال فيما بعد أن الكاميرات على الطريق الرئيسي الذي وقع فيه الاغتيال شارع الإمام الخميني، قد تم تعطيلها.
فخري زاده قاد سيارة غير مُصفحة وعارض بشدة الجلوس في الخلف وذلك بحسب تقارير، وقد كانت تجلس زوجته بجانبه، وقد تقدمت إحدى السيارات مع حُراس الأمن في المقدمة وتبعتهم سيارتان للأمن في الخلف، قبل الساعة 3:30 مساءً بقليل انعطفت القافلة حيث كانت السيارة تنتظرها بالكاميرا – وهذا أكد للمشغلين عن بُعد أن فخري زاده كان يُسافر بالفعل في السيارة، وأكد التقرير أن العُملاء رأوا زوجة فخري زاده تجلس بجانبه.
ثم سارعت السيارة الأولى في القافلة بشكل حاد لتصل إلى منزل فخري زاده وتفتيشه قبل وصول الجميع، وهو خطأ زاد من كشف سيارة فخري زاده للقتلة، مع اقتراب المركبة من الكمين تباطأت سُرعتها قليلاً بسبب المُفترق، وقد جعل الارتفاع في ذلك المكان القتلة يتمتعون بميزة ارتفاع صغيرة وهي أن الطريق مكشوفة، عندما اجتاز العالم الفخ فتح المدفع الرشاش بوابل من الطلقات حيث ورد أن الرصاصات الأولى سقطت تحت الزُجاج الأمامي للسيارة ولم يتضح ما إذا كانت قد أصابت الضحية نفسه.
قام مشغلو الروبوت بتعديل زاوية الرؤية الخاصة بهم وفتحوا النار مرة أخرى، وهذه المرة أصابت ثلاث رصاصات على الأقل الزُجاج الأمامي للسيارة، إحداها أصابت كتف فخري زاده، خرج فخري وركع خلف الباب المفتوح، فيما استمر إطلاق النار، وبحسب تقرير في وكالة الأنباء الإيرانية فقد أُصيب بعد ذلك بثلاث رصاصات في عموده الفقري وسقط على الطريق.
في هذه الأثناء ركضت زوجة فخري زاده إلى زوجها، وبحسب أبنائه الذين قابلتهم وسائل إعلام إيرانية، فقد قال لها في لحظاته الأخيرة: “يريدون قتلي.. عليكم الرحيل”، جلست المرأة على الطريق وأثنت رأسها على حجرها، وأفيد أن أول حارس أمن وصل إلى مكان الحادث كان رجلاً يُدعى حامد أصغري وهو مُصارع جودو معروف في إيران، نظر في كل مكان بحثاً عن المُهاجم وبدا مرتبكاً في تصرفاته.
في وقت لاحق انفجرت الشاحنة في محُاولة للقضاء على أي أثر للمدفع الرشاش المُحوسب ولكن وفقًا لصحيفة التايمز، فقد انحرفت خُطة الموساد عن ما رُسم لها، وبدلاً من انفجار المدفع إلى قطع صغيرة تم تفجير المُعدات المُتطورة وتكسرها، وتضررت بشكل لا يُمكن إصلاحه، ولكن هذا سمح للمُحققين الإيرانيين معرفة طريقة الاغتيال.
استغرقت العملية بأكملها أقل من دقيقة ولم يتم إطلاق سوى 15 رصاصة خلالها (على الرغم من أن الآلة يُمكن أن تُطلق 600 رصاصة في ذلك الوقت كما ذكرنا)، فيما لاحظ المُحققون الإيرانيون في استجوابهم أنه على الرُغم من أن زوجة فخري زاده كانت تجلس على بُعد بضع بوصات منه إلا أنها لم تتضرر على الإطلاق، وذلك بفضل برامج التعرف على الوجه التي يستخدمها القتلة .