سفينة نوح… اللبنانية..
– ناصر قنديل
يطلق عادة تشبيه سفينة نوح على إحدى حالتين، الأولى هي تعدد المكونات التي تحملها سواء كان التعدد إشارة للكثرة أو للتناقص، والثاني هو الطابع الإنقاذي الذي مثلته سفينة نوح بتجنيب ركابها خطر الغرق في الطوفان، وسفينة المحروقات التي جلبتها المقاومة من إيران وعبرت ناقلاتها حمولة المحروقات عبر الحدود السورية إلى لبنان، تشبه سفينة نوح في المسار الذي تمثله لجهة تعدد المجالات التي أطلقت فيها مسارات جديدة لم تكتمل عناوينها بعد، أو لجهة موقعها الإنقاذي بتجنيب لبنان خطر الغرق في طوفان كان يهدّد كل شيء بالغرق.
جاءت سفينة المقاومة كطليعة لأخواتها لتفتح الباب لجملة تطورات في العديد من الملفات، ففي الملف السياسي كانت السفينة رسماً لمعادلة جديدة عنوانها نقل مفاعيل معادلة الردع التي أرستها المقاومة في البر إلى البحار، في لحظة تراجع وارتباك أميركية بعد الانسحاب من أفغانستان بما حمله من تعبير عن الاعتراف الأميركي بفشل اللجوء إلى فائض القوة العسكري لصناعة السياسة، وسعي الإدارة الأميركية لتفادي الانخراط في مواجهات تعرض قواتها وسياساتها للخطر من دون أن تكون هذه المواجهات دفاعاً صريحاً عن الأمن الأميركي بوجه تهديد غير قابل للتأويل، وفي لحظة نزف مستمر لكيان الاحتلال تحت وطأة معادلات المواجهة في فلسطين والقلق من تسييل قوة المقاومة من لبنان نحو فلسطين تحت شعار القدس تعادل حرباً إقليمية، بحيث صارت السفينة تحدياً لقرار بحجم التورط الأميركي «الإسرائيلي» بحرب، أو تقبل تمدّد معادلة الردع نحو البحار كمسار قابل للتوسع، ليست عملية التنقيب عن النفط والغاز واستخراجه إلا أولى الخطوات المرشحة لتشكيل حلقة من حلقاته، أو البحث عن بديل ثالث، بدأت طلائعه برفع الحظر الأميركي عن استعادة العلاقة مع سورية نقيضاً لما بشر به قانون قيصر، من بوابة أولى ستتسع كلما كانت المعادلة حاضرة، وهي ستحضر، والبوابة كانت بالتراجع عن منع رسمي لاستجرار الكهرباء الأردنية والغاز المصري عبر سورية، والخطوة الأهم في البديل التراجعي أمام مسار السفينة كانت بالتدخل الأميركي المباشر للضغط لولادة عاجلة للحكومة ومسابقتها لوصول السفينة، وفتح الباب لتجديد تمويل دعم استيراد المحروقات من قبل مصرف لبنان، وكل الذي يجري يعني القول بالتسليم بالفائض السياسي لمعادلة الردع على البر مقابل تجميد مفاعيلها في البحر، والتجاذب مستمر بين المسارين.
جاءت السفينة لتصيب كبد النظام الريعي الذي جمع فيه قطاع المحروقات ما كان يمثله أصلاً في بنية النظام الاقتصادي في الحرب الأهلية وبعدها، مع ما ورثه من موقع ومكانة القطاع المصرفي الشريك الكامل في اقتصاد المحروقات الذي تحول إلى ميدان حصري للعمل المصرفي مع توقف نظام الاستثمار في الدين وسندات الخزينة، وقد تحول اقتصاد المحروقات منذ بدء الأزمة إلى نقطة تقاطع الاحتكار وتجار الأزمات ومهربي الأموال إلى الخارج، فهذا الاقتصاد استحوذ بفضل الدعم المشبوه على أكثر من عشرة مليارات دولار من أموال المودعين، شكلت الأرباح منها أكثر من سبعة مليارات منها ما حول للخارج خلسة ومنها ما تحقق عبر التهريب والسوق السوداء، وتشاركت فيه قوى سياسية وتجار كبار ومصارف، وجاءت السفينة لتصيب هذا الاقتصاد في الكبد، فهي تبشر بدخول لاعب كبير، بقياس حجم الكميات التي ستدخل الأسواق، ونظيف وشريف، بقياس عدم سعيه لتحقيق الربح، ووطني، بقياس التزامه بعدم التمييز بين اللبنانيين على أساس المناطق والطوائف في التعامل مع هذا الملف خصوصاً، وبذلك تعيد السفينة تشكيل المشهد الاقتصادي بصيرورة مفتوحة على إعادة تشكيل للأحجام والأدوار والأنماط، وتتيح عبر مركزية قطاع الطاقة وضع الأسس لمفهومين جديدين، التوجه شرقاً، ورفع مكانة القطاعات الإنتاجية.
جاءت السفينة لتربك التنظيم الاجتماعي القائم على زيادة الأغنياء غنى والفقراء فقراً، لتضع أولوية جديدة في المفهوم الاجتماعي عنوانها أولوية مكانة الفقراء، سواء بحجم مكانتهم في الأولويات أو بحجم النتائج التي ستترتب على جداول نفقاتهم، وسيكون مفاجئاً التعرف إلى ما بدأت ملامحه في مناطق ما كانت لتنفتح يومياً على المقاومة، وأقيمت بينهما جدران عالية، حطمتها السفينة، ولأن الخطر الأكبر الذي أطاح بكل مفاعيل مسعى تغييري شعبي كان الانقسام الطائفي القابل للتحول بسرعة إلى عصبيات قاتلة، فان أهم ما بدأت ملامحه بالظهور مع السفينة هو هذا الانفتاح للمناطق على بعضها من خارج جدران الطوائف والعصبيات، حتى بدأت القوى الطائفية تتحسس الخطر.
سفينة نوح اللبنانية جمعت عناوين مصيرية كبرى في السياسة والاقتصاد والمجتمع، وشكلت نقطة انطلاق لمسار إنقاذي من الطوفان الذي كانت بوادره تقترب.