لبنان ومسارات المنطقة
رامي الرّيس-نداء الوطن
أما وقد تشكلت الحكومة اللبنانيّة بعد مخاض عسير إمتد لأكثر من سنة بعد تدخلات خارجيّة مكثفة أفضت إلى إلتزام القوى المعرقلة بمقتضيات التأليف وخفض سقوف الإعتراض والعراضات والبطولات الوهميّة؛ فإن التحديات الماثلة أمام لبنان لا تقتصر على الشق الإقتصادي رغم ضراوته وقساوته.
صحيحٌ أن الأولويّة المطلقة عند اللبنانيين هي مكافحة الفقر والبطالة والحد من الغلاء الفاحش وإعادة الإعتبار للعملة الوطنيّة ووقف التدهور السريع على كل المستويات، وهذا أمر مشروع ومفهوم ومبرر؛ ولكن الصحيح أيضاً أن ثمّة تحديات سياسيّة كبرى تواجهها هذه الحكومة التي وُلدت في لحظة المنعطفات الصعبة والقاسية التي تشهدها المنطقة.
من الواضح أن المنطقة العربيّة تعيش تحولات كبرى بعضها من شأنه أن يعيد خلط الأوراق على أكثر من مستوى لا سيّما مع التصاعد الكبير لدور اللاعبين الاقليميين من غير العرب وقدرتهم العالية على التأثير في مجريات الساحات العربيّة. في طليعة تلك الدول إيران وتركيا وإسرائيل، والأولى تملك الأذرع العسكريّة والأمنيّة التي إخترقت عدداً من الدول وصارت تملك فيها الكلمة الفصل فتصنع حكومات وتسقط أخرى، وتمسك بمفاصل القرارات الكبيرة في البلاد.
إذا كان خلط الأوراق السياسيّة يرمي إلى إستعادة شكل من أشكال الدور العربي الذي إضمحل وتقهقر خلال السنوات المنصرمة، فإن الرهان على فصل الدول العربيّة التي تدور في فلك طهران عن إرتباطها الوثيق بإيران لن يكون مهمة سهلة. إن مستوى التغلغل العميق الذي قادته طهران في بعض الساحات العربيّة إما مباشرة أو من خلال بعض أذرعها التنفيذيّة إنما يجعل هذا الفكاك درباً لن يكون سلوكه سهلاً.
يُضاف إلى ذلك أن ثمّة إمكانيّة أن تتوفر لدى بعض الأنظمة قدرات هائلة في التلاعب السياسي والاعلامي الذي يتيح لها أن تسلف في مكان وتقبض في مكان آخر. بمعنى آخر، ألا تخرج عن تحالفاتها التقليديّة العميقة (لأنها لا ترغب أو لأنها لا تريد، النتيجة واحدة)، وتسعى في الوقت ذاته لإعادة تعويم علاقاتها القديمة مع المحيط العربي.
بمعزل عن فرص نجاح أو فشل سياسة اللعب على الحبال والسعي لتحقيق المكتسبات من الجهات المتناقضة؛ ثمّة ما يعني لبنان في لحظة التحولات الكبرى وهو الدفع في إتجاه إعادته إلى قمقم الوصاية (بمعزل عن هويتها) وهذا ما يحتّم التنبّه للوظيفة السياسيّة للحكومة الحالية، بموازاة دورها المحوري في المجال الاقتصادي وضرورة العمل الحثيث في إتجاه وقف الانهيار تمهيداً لتحديد عناصر النهوض.
إن ضراوة المأزق الإقتصادي تحتّم تكريس الاهتمام المطلق لمعالجة المشاكل المتراكمة والمتفاقمة في مختلف القطاعات، ولكن من الضروري ألا تتم إشاحة النظر عمّا يُحضّر دوليّاً وإقليميّاً للمنطقة بما ينطوي عليه من مخاطر تحدق بالبلاد التي كانت ولا تزال قابلة للاختراق من مختلف الاتجاهات بفعل الانقسامات التاريخيّة التي طبعت الحياة الوطنيّة والسياسيّة اللبنانيّة على مدى عقود.
إن الاختلال الكبير في موازين القوى السياسيّة الذي من المرجح أن تكرّسه المعادلات الجديدة في المنطقة نتيجة السياسات الغربيّة القائمة على إعادة تركيب علاقاتها مع دول المنطقة ومكوناتها الأساسيّة وفق مقاربات مختلفة سيعكس نفسه بشكل أو بآخر على الصعيد المحلي. هذا المسار سيستغرق وقتاً طويلاً قبل أن تُثبّت ركائزه، وفي الوقت المستقطع سيكون من المتوقع أن تستشرس قوى الممانعة في إبراز بطولاتها وإنتصاراتها.
الأكيد أن لبنان سيجد نفسه مرّة أخرى امام مفترق طرق صعب، والخيارات المتاحة ليست ورديّة. ولكن من قال ان الأقدار لا يمكن تعديل مساراتها؟