جورج شاهين-الجمهورية
على وقع ردّات الفعل الدولية والاقليمية التي رافقت ولادة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، لا يمكن الاستهانة بحجم الرعاية الخارجية التي حظيت بها بأي شكل من الاشكال، بعدما تعب العالم اكثر من اللبنانيين، لتجنيب البلاد الارتطام الكبير الذي يتجاوز ما يعيشه اللبنانيون. وعليه، تجزم المراجع الديبلوماسية في التأكيد على انّ العيون الدولية ستُمهل الحكومة الجديدة لفترة محدّدة لتثبت جدارتها، من دون ان تهملها. وعليه ما هي تبعات مثل هذا الوضع؟
لا يمكن لأي من المراقبين والوسطاء الذين تعاطوا في عملية تأليف الحكومة الجديدة، بعد مسلسل التجارب الفاشلة التي امتدت على مدى ثلاثة عشر شهراً، ان يستوعبوا التطور السريع الذي قاد الى تشكيلها. فقد فشل المُكلّف الاول السفير مصطفى اديب في مهمته، ومن بعده المُكلّف الثاني الرئيس سعد الحريري الذي امضى عشرة أشهر من دون ان يتمكن من تأليف حكومة يرضي بها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون.
اما وقد انتهت فترة الشغور الحكومي، والتي بقيت خلالها البلاد بلا حكومة كاملة الصلاحيات الدستورية، تزامناً مع تجميد عمل «حكومة مواجهة التحدّيات» بإصرار رئيسها الدكتور حسان دياب على تطبيق مبدأ «تصريف الاعمال» في اقصى حدوده، الى ان وصلت الى درجة الشلل التام. فهو تقدّم باستقالته منذ العاشر من آب العام الماضي، من دون ان يوجّه الدعوة الى جلسة واحدة لمجلس الوزراء. فبقيت البلاد تدار بطريقة غير دستورية، كثرت خلالها السوابق والأعراف التي لن يتعرّف اللبنانيون الى حجم خسائرها ومفاسدها لوقت طويل. فقد بقيت البلاد طوال هذه الفترة محكومة بنظام لم يعرفه اللبنانيون من قبل، ولا يقرّ به نظام او دستور. وتركت لخليفتها حديثة الولادة، كثيراً مما يجب عليها تثبيته أو تصحيحه، لتعذّر تعديل كثير من القرارات «الهمايونية» التي صدرت والتزم بها اللبنانيون بفعل قوة الامر الواقع، خارج اي منطق قانوني او شرعي وربما دستوري، وإن جاز الطعن ببعض ما اتُخذ من قرارات، لن يكون من الصعب، حيث تسمح المِهل بذلك وفي مجالات ضيّقة جداً.
أما وقد ولدت الحكومة العتيدة، بعد طول معاناة وانتظار ثقيلين القيا بظلالهما السلبية على حياة اللبنانيين، فقد بات العمل المطلوب من الحكومة الجديدة ملحّاً وضرورياً على اكثر من مستوى، إداري ومالي ونقدي وانساني وخدماتي واصلاحي ودستوري، وهو ما وضعها تحت الرقابة الدولية اللصيقة، قبل الداخلية منها، قياساً على حجم الجهود والتفاهمات الخارجية التي قادت اليها، بما فيها اختيار عدد من الوزراء الذين باتوا على تماس دقيق مع الخارج، ليس لتثبيت انتمائهم لهذه الدولة او هذا المحور أو ذاك، بل لأنّ جزءاً من عمل هذه الحكومة سيكون بإدارة مشتركة داخلية وخارجية، لا يمكن تجاهله على الإطلاق مهما تعدّدت الاصوات المنادية بالسيادة والحرية وعدم التطلع الى الخارج وما يريده.
وعليه، كشف أحد الديبلوماسيين الذي واكب المراحل الأخيرة من ولادة الحكومة، بصعوبة التعاطي مع بعض اللبنانيين. فهم «يريدون منك كل شيء ولا يريدون النصيحة التي توجّهها امام حجم الفشل الذي ادّى اليه أسلوب العمل المعتمد في كثير من القطاعات الحيوية التي لا قيامة لها، من دون الدعم الخارجي اياً كان شكله، عن طريق القروض او الهبات أو المساعدات». ويضيف: «لم يعد هناك قيادة للبلد منذ فترة طويلة، وتتنازعه قوى خارجية لا تتناسب قدراتها المالية والعسكرية في ما بينها، مما جعل البحث عن التوازن الداخلي المطلوب مفقوداً. فالخلل أمر واقع على اكثر من مستوى، نتيجة تورط قوى كبرى بمالها وسلاحها وربما بلقمة عيشها للخارج. ولكي لا يخطئ احد، فالأمر لا يقف عند توصيف دور وقوة «حزب الله» الذي يجاهر بما يدين له لإيران. فهناك قوى اخرى تلتزم مصالح خارجية، وتعهدت بحمايتها لقاء احتفاظها بمواقعها ونفوذها، الى درجة جعلت الوسطاء الدوليين الساعين الى اي تفاهم، الى إبرام تفاهمات دولية، فجالت بديبلوماسيتها على دول وأنظمة مختلفة».
وبناءً على ما تقدّم، يستشف من الديبلوماسي سخافة الإمعان في البحث عن تفاصيل داخلية تتصل بتشكيلة الحكومة وتركيبتها وإمكان وجود «ثلث معطّل» فيها مثلاً، لتوحي إليك بطريقة واضحة، انّ هناك وكلاء لدول يشاركون في هذه الحكومة. وانّ هناك من تعاون وأصغى الى الفرنسي كما الى الايراني والاميركي والمصري في الفترة الاخيرة. فهم الذين تدخّلوا في كل شاردة وواردة، حتى في اختيار الوسطاء الذين أنهوا ادوار آخرين شاركوا برعاية مباشرة في تفكيك العِقد الاخيرة. ولذلك، ظهرت «معادلة الصهرين»، بعدما رعت فرنسا ادوارهم، وراح بعضهم يتابع البحث عن هذا الاسم او ذاك، كما النظر في اختصاصه وسيرة حياته قبل تسميته، فظهرت اسماء «أصدقائهم» التي لم تكن على بال او خاطر أحد.
لم يكن التوقف عند هذه المعطيات من أجل التشكيك بقدرات المسؤولين اللبنانيين فحسب، بل من اجل إثبات عجزهم عن ادارة شؤون البلاد، رغم حجم الأوصاف الكبيرة التي أُغدقت، بل للدلالة على اهمية الرعاية الدولية، التي لولاها لما ولدت الحكومة التي ستسعى الى ترجمة مجموعة النصائح الدولية والإقليمية في أدائها قبل بيانها الوزاري، قياساً على حجم الأزمات التي تناسلت من صفيحة البنزين والمازوت الى حبة الدواء، في بلاد تحتاج الى من ينقذ قطاعها المصرفي وإعادة إحياء ما تبقّى من مظاهر الدولة ومؤسساتها العاجزة عن تقديم أبسط ما عليها من واجبات. فالمؤسسات العامة والوزارات عاجزة اليوم عن إنارة مكاتبها وتلبية مطالب مواطنيها، الى درجة بات عليهم انتظار لأشهر من أجل إتمام معاملة في إدارة رسمية. عدا عن المعاناة نتيجة فقدان الإفادات الرسمية، من اجازة عمل لأجنبي واخراج قيد وسجل عدلي، التي دخلت لائحة الخدمات غير المتوافرة سوى في السوق السوداء، ببلوغ الدولة مرحلة الانحلال الشامل.
على هذه الخلفيات، بات على الحكومة الجديدة بجميع اعضائها ان يقدّموا مثالاً واحداً يوحي بجدّيتها، وتجاوز الإنقسامات الداخلية لتوفير «الدعسة الاولى» المطلوبة بتجرّد غير مسبوق، للانتقال بالبلاد الى مرحلة التعافي والإنقاذ والعمل تحت سقف النصائح الدولية، وليس أولاها، ما هو مطلوب لإحياء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ومالكي سندات «اليوروبوندز»، قبل ان تدخل البلاد مدار الانتخابات النيابية. فحديث البعض عن تأجيلها للاحتفاظ بحجمه وتأجيل استحقاقات دستورية اخرى، امر غير وارد على الإطلاق. وعليه، ستكون المبادرة مطلوبة من جانب الحكومة، وأي محاولة لنسفها من الداخل ستكون مكلفة على أصحابها.
وختاماً، لا بدّ من الاعتراف انّ كل من أعاقوا تشكيل الحكومة من قبل لأسباب معروفة من الخارج قبل الداخل، عليهم الإنحناء امام حجم العاصفة الدولية التي لفحت لبنان. فهي تمهلهم ولآجال محدّدة، من دون ان تهمل اي تفصيل يتخاذلون عن أخذه. وإنّ غداً لناظره قريب.