حضرت كل دول الجوار مؤتمر بغداد للحوار الإقليمي، وغُيب عنه الرئيسان السوري واللبناني. لم يكن ذلك التغيب مفهوماً في وقت حضرت فيه إيران وتركيا ودول الخليج والأردن وفرنسا ومنظمات إقليمية، لكنه يصبح قريباً إلى الفهم عندما ندرك أن الحضور يمثل حيثيات قائمة بذاتها، فيما السلطتان في سوريا ولبنان باتتا نتاجاً لتوازنات بين قوى إقليمية ودولية مختلفة، هي التي تتخذ القرار باسمهما وعنهما.
في سوريا لم يكن للنظام أن يستمر لولا الدعم الروسي المباشر، وانخراط إيران وميليشياتها في القتال من أجل إبقائه، وسوريا اليوم تتوزع بين مناطق نفوذ، الأتراك في الشمال الغربي والأميركيون في شرق الفرات وفي المنطقتين قوى معارضة للنظام، أما في المناطق الأخرى فينتشر الروس والميليشيات الإيرانية وقوات الجيش، وتتولى الشرطة الروسية التنسيق بينها كما حصل أخيراً في درعا.
بديهي أن يعني ذلك ألا سلطة يُركن إليها، وتمثيلها يعود إلى كل تلك القوى المتنافرة والمتناقضة التي حضرت بغداد مباشرة أو غير مباشرة، وبينها وزير الخارجية الإيراني الذي كان الأكثر حماسة لتمثيل النظام السوري، والأكثر حرصاً على إبلاغه بنتائج المؤتمر في اليوم التالي من انتهاء أعماله.
لبنان بدوره يعيش تجربة ضياع الدولة. بقي منذ أكثر من عامين من دون حكومة فعلية، ويعيش حال انهيار تام، فيما تنتعش سلطة حزب الله، الدولة داخل الدولة، ويزداد الانقسام الطائفي والمذهبي والمناطقي والطبقي عمقاً واتساعاً. تحول لبنان خلال هذين العامين إلى مختبر للبؤس وانحلال الدولة وإلى عنوان لمناشدات الدول الأجنبية والعربية كي يشكل حكومة ويبدأ بإنقاذ نفسه. تولت فرنسا قيادة الجهود الدولية لإعادة إيقاف لبنان على رجليه، ودعمتها أميركا والمجموعتان الأوروبية والعربية وروسيا، ومع ذلك بقي لبنان من دون حكومة لسبب بسيط، ارتباط قواه السياسية الممسكة بالقرار بالمحور الإيراني الذي يستعمل البلد كما غيره من مواقع المنطقة (سوريا واليمن والعراق) أوراق ضغط للتوسع وتحقيق المصالح الخاصة في الصراع الحاصل حول المشروع النووي الإيراني، ودور طهران اللاحق في الإقليم.
حصل لبنان على حكومة في النهاية، لكن ذلك لم يتحقق إلا بعد موافقة طهران. كان الاتصال بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي مفتاحاً للإفراج الايراني عن حكومة قابعة منذ سنة في ثلاجة الانتظار، وتم ذلك عشية تهديد غربي بمشاركة روسيا باحتمال العودة لمجلس الأمن إذا لم تستجب إيران لمطالب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فلم تستأنف مفاوضات فيينا المتوقفة منذ أربعة أشهر.
غير أن ذلك لم يكن السبب الوحيد لليونة الإيرانية، فهناك شعور له ما يبرره بأن تغييرات قادمة قيد الإعداد وستطال المنطقة بدءاً من سوريا ومروراً بلبنان والعراق ووصولاً إلى فلسطين.
سوريا ستكون على الأرجح مختبراً لهذه التغييرات، وهي مؤهلة بسبب كثرة اللاعبين على أرضها لأن تكون مدخلاً لتفاهمات بدأ اللاعبون الإعداد لها، ونجاح هذه التفاهمات لا بد من أن ينعكس على حالات أخرى منها لبنان وغيره.
ستنصرف أميركا إلى بذل جهود أكبر في المنطقة بعد انسحابها من أفغانستان. بعد اللقاء الأول للرئيس جو بايدن مع رئيس الحكومة الإسرائيلية الجديد نفتالي بينيت، هرع وزير دفاعه بيني غانتس إلى رام الله للقاء رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وقرر إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس. كان ذلك تغييراً ملموساً في السياستين الأميركية والإسرائيلية تجاه الفلسطينيين. وفي سوريا أكد الأميركيون بقاءهم في المنطقة الشرقية لمحاربة الإرهاب، وتمسكوا “بتغيير سلوك النظام”، أما في العراق فأكدوا شراكة عميقة ورهاناً على انتخابات أساسية تحت رقابة بعثة أممية سيسهمون بثلث كلفتها (5 ملايين دولار من أصل 15 مليوناً).
روسيا بدورها تستعد وهي التي تعتبر تدخلها في سوريا نموذجاً في الحفاظ على استقرار الدول والأنظمة. تفاوضت مع أميركا خلال الأيام الماضية مع روب مالي ممثل أميركا في المفاوضات الإيرانية، وتواصل على أعلى المستويات اتصالات مع واشنطن في شأن الملف السوري، غير أن اللافت كان مفاوضاتها مع إسرائيل، ففي اللقاء الذي جمع وزير خارجيتها سيرغي لافروف مع نظيره الإسرائيلي يائير لبيد قبل أيام في موسكو، لم تصدر كلمة واحدة تدين الضربات الإسرائيلية في سوريا، بل على العكس فقد شدد لافروف أن موسكو لا تريد أن تستخدم الأراضي السورية ضد إسرائيل أو ضد أي طرف آخر، وكان ذلك بمثابة إشارة إلى إيران بالتحديد.
ثمة وقائع جعلت تغييب لبنان وسوريا عن لقاء بغداد طبيعياً، وثمة تطورات ستجعل من تلك الوقائع جزءاً من الماضي، وإيران تستشعر أن قدرتها على الاستفادة من استثماراتها المديدة في لبنان وسوريا وغيرهما بدأت تتضاءل. الإفراج عن حكومة لبنان كان إشارة، لكن التفاهمات المُحتملة حول سوريا ستكون الانعطافة.