د. عصام نعمان*-البناء
أخيراً… وبعد 13 شهراً على استقالة حكومة حسان دياب وما أعقبها من صراعات وخلافات ومقاطعات ووساطات، أمكن تدوير الزوايا بين التكتلات السياسية المتصارعة وتوصّل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلف نجيب ميقاتي إلى تأليف حكومة من 24 وزيراً قيل للبنانيين إنهم اختصاصيون ومستقلون.
قد يكون بعض هؤلاء اختصاصيين أكفاء، لكن أحداً لم يصدّق أنهم مستقلون. فهم ينتمون، مباشرةً أو مداورةً، إلى زعماء المنظومة السياسية المتسلطة التي ما انفكّت تتحكم بالبلاد والعباد مذّ إقرار وثيقة الوفاق الوطني (الطائف) وإدخال بعض إصلاحاتها في متن الدستور عام 1990.
ما معنى التوافق على تأليف حكومة نجيب ميقاتي في هذه الآونة؟
المعنى الأبرز أنها جاءت نتيجةَ تسليم أطراف الصراع بانحسار نفوذ القوى السياسية الملتزمة نهج التوجّه غرباً وصعود القوى السياسية المنادية بخيار التوجّه شرقاً.
قبل التوافق على تأليف حكومة ميقاتي بأسبوعين، أعلن قائد المقاومة السيد حسن نصرالله البدء باستيراد مشتقات النفط من إيران بالليرة اللبنانية وأن باخرة تنقل كميات من المازوت أبحرت باتجاه شواطئ لبنان.
سارعت سفيرة الولايات المتحدة في بيروت دوروثي شيا إلى إجراء اتصالات مع المسؤولين في مصر والأردن جرى الإعلان بعدها عن اتفاق لاستجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن وإيصالهما إلى لبنان عبر سورية.
بدا واضحاً أن واشنطن حاولت قطع الطريق على المنادين بالتوجه شرقاً (إلى سورية والعراق وإيران وروسيا والصين) حتى لو كلفها ذلك تعطيل مفعول «قانون قيصر» القاضي بمحاصرة سورية اقتصادياً ومعاقبة دول الجوار التي تتعاون معها.
إذ سلّم معظم القوى السياسية المتصارعة بجدّية خيار التوجه شرقاً، أصبح تأليف حكومة ميقاتي ممكناً.
الصراع لم ينتهِ بطبيعة الحال. سيتجدد حتماً عند البحث في البيان الوزاري الذي ستتقدم به الحكومة الجديدة لنيل ثقة مجلس النواب. فما عساها تكون أولوياتها في هذه المرحلة الخطيرة؟
ثمة أولويات سياسية واقتصادية ملحّة، وثمة استحقاقات دستورية يقتضي الوفاء بها.
أبرز الأولويات السياسية والاقتصادية الملحّة ثلاثة:
مواجهة الضائقة المعيشية الشديدة الناجمة عن التضخم (الغلاء) واختفاء بعض الأغذية والأدوية والوقود، لا سيما المازوت والبنزين ما أدى إلى انقطاع الكهرباء وصعوبة النقل والانتقال وتوقف المصانع ووسائل الإنتاج.
شحّ موارد مصرف لبنان المركزي من الدولارات ما حال دون تأمين الأذونات والاعتمادات اللازمة لاستيراد المواد الضرورية من الخارج واشتراط حاكم مصرف لبنان إقرار تشريع في مجلس النواب يجيز له استعمال الاحتياط الإلزامي للمصارف لديه، وهو الاحتياط الذي يضمن ودائع المودعين لدى تلك المصارف.
مباشرة التدقيق الجنائي في حسابات المصارف عامةً ومصرف لبنان المركزي خاصة، كما حسابات الدولة، هذا التدقيق الذي لم يبدأ بعد نتيجةَ خلافات ومعوقات مصدرها أركان المنظومة السياسية المتسلطة.
كيف ستتصدّى حكومة ميقاتي لهذه الأولويات السياسية والاقتصادية، وهل تؤدي الخلافات المرتقبة بشأنها إلى تفجير الحكومة أو تعطيل أدائها؟
أبرز الاستحقاقات الدستورية اثنان:
الانتخابات النيابية في شهر أيار/ مايو من العام المقبل.
انتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس عون في آخر تشرين الأول/ أكتوبر من العام المقبل.
ثمة أسئلةٌ تُطرح:
هل تسمح الظروف السياسية والأمنية المعقدة بإجراء الانتخابات بعد ثمانية أشهر على تأليف الحكومة الجديدة؟
هل في مصلحة أطراف الصراع المحليين إجراء الانتخابات النيابية في ظل قانون الانتخاب الحالي أم أن بعضهم سيحاول تعديله قبل حلول موعد الانتخابات؟
ماذا لو تعذّر تمديد ولاية مجلس النواب أو إجراء الانتخابات قبل انتهاء موعدها أواخرَ أيار/مايو 2022؟
ما العمل إذا انتهت ولاية الرئيس عون في آخر تشرين الأول 2022 ولم يكن يوجد مجلس نواب لانتخاب خلفٍ له؟
أسئلة مقلقة دونما شك، فهل طبيعة الصراعات المستفحلة بين أطراف المنظومة السياسية المتسلطة من جهة، وهل التوافق الذي تمّ بين هؤلاء لتأليف حكومة ميقاتي كافٍ لاحتواء الصراعات المرتقبة في ما بينهم من جهة اخرى؟
إلى ذلك، كيف يقتضي أن تتصرف القوى الوطنية والتقدمية المعارضة لكل أطراف المنظومة السياسية المتسلطة، وهل سيكون في وسعها توليد ضغوط شعبية كافية لحمل المنظومة السياسية المتسلطة على تقديم التنازلات اللازمة لتحقيق إصلاحات سياسية مطلوبة خلال الأشهر الثمانية التي تفصلنا عن موعد الانتخابات النيابية؟
من أسفٍ أن قوى المعارضة الجدّية ما زالت مشتتة وثمة عوائق متعددة أمام توحيد جهودها أو حتى التنسيق في ما بينها. مع ذلك فإن خطورة التحديات والاستحقاقات سالفة الذكر تستوجب قيام القوى الحيّة في صفوف المعارضة بمحاولة عاجلة وجادة لتحديد الخطوات الرئيسة اللازمة لتوحيد جهودها من جهة والخطوط العريضة لبرنامجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي البديل من جهة أخرى.
في هذا الإطار، أرى أن قيادات القوى الوطنية والتقدمية مدعوة إلى تسريع الاتصالات والمباحثات الجديّة في ما بينها للتوصل إلى تشخيص مشترك للوضع الراهن بكل أبعاده، بالتالي التوافق على أطر التنسيق والتعاون في ما بينها ووضعها موضع التنفيذ بالسرعة الممكنة.
أما بشأن الخطوط العريضة لبرنامجها السياسي والاقتصادي البديل فأرى أن يكون التركيز على المفاصل الآتية:
أولاً: تفعيل المعارضة الشعبية بكل الوسائل المشروعة ضد المنظومة السياسية المتسلطة بكل أطرافها وحلفائها والاستمرار في حال اشتباك سياسي وميداني دائم معها.
ثانياً: التواصل مع حزب المقاومة لإقناعه بضرورة توظيف رصيده السياسي والشعبي الوازن في دعم المطالب الإصلاحية الأساسية لقوى المعارضة والضغط على حلفائه لقبولها والسير بها.
ثالثاً: التركيز على أن المطلب الإصلاحي الأول والأفعل لقوى المعارضة الوطنية في هذه المرحلة الانتقالية هو وضع قانون انتخابات ديمقراطي جديد على الأسس الآتية:
(أ) الدائرة الوطنية الواحدة.
(ب) التمثيل النسبي
(جـ) خفض سن الاقتراع إلى الثامنة عشرة.
(د) تنفيذ أحكام المادة 22 من الدستور القاضية بانتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف.
إذا تعذّر إقرار هذا القانون في مجلس النواب لأي سبب من الأسباب، فيقتضي الدعوة إلى إقراره في استفتاء شعبي عام حتى لو تطلّب الأمر فترةً زمنية أطول.
أخيراً وليس آخراً، لعل المبدأ الأساس الذي يجب أن تلتزمه القوى الوطنية الحيّة وتناضل ليصبح المطلب الرئيس لكلّ القوى المنادية بالإصلاح، هو أن لا فرصة البتة لأيّ تغيير أو إصلاح في ظلّ نظام المحاصصة الطوائفية الراهن وأن تجاوزه، سلمياً وديمقراطياً، يكون من خلال قانون للانتخابات يضمن صحة التمثيل الشعبي وعدالته.
هذا هو التحدي الرئيس، وهذا هو طريق الخلاص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ