جاسم عجاقة-الديار-مانشيت
لبنان شبه معزول مالياً نتيجة قرارات حكومية عشوائية غير مدروسة. الدولار لم يعد يتدفّق إلى لبنان بالطريقة التي كان يتدفّق بها في الماضي والسؤال الوجيه: لماذا؟ حتماً سببه الأول مثلث القطيعة مع الدول الخليجية، والمواجهة مع المجتمع الدولي، وإعلان وقف دفع سندات اليوروبوندز، ومن ثم السياسات الريعية التي تمّ إتباعها، إلى الفساد المُستشري والتهريب والاحتكار، كل ذلك من العوامل أوصلت لبنان إلى هذه الحالة، وبالتالي دفعت نحو عزلة مالية قاسية على لبنان قلصت تدفقات الدولار إلى لبنان إلى مستويات لا يُمكن معها تأمين الإستيراد اللازم للشعب اللبناني.
في الداخل، فرض الإحتكار والتهريب (بكل أنواعه) تسريع الأزمة حتى وصل الأمر إلى رمي علب الحليب والأدوية المنتهية الصلاحية في القمامة في الوقت الذي يفتقد المواطن إليها. كما أن تجارة المحروقات في السوق السوداء، سحبت كل الكميات المتوافرة في السوق في الوقت الذي تمتد فيه طوابير السيارات على أبواب المحطات على مئات الأمتار وحتى على كيلومترات. كل هذا حصل في ظل فراغ سياسي وحكومي قاتل يرتقي إلى مستوى الجرائم بحق المواطن اللبناني الذي فقد خلال عامين كل ما كان يتمتع به من أمن إجتماعي ورفاهية ليُصبح المتلقي الأول للمساعدات الإنسانية في العالم!
الحكومة أبصرت النور بعد ثلاثة عشر شهراً على إستقالة سابقتها، وثلاثة وعشرين شهراً على بدء الإحتجاجات الشعبية. هذه الحكومة التي تمتلك حصرية القرار الإقتصادي، مطالبة اليوم بوضع الشق المعيشي في أول سلم أولوياتها رأفة بالناس الذين هم أساس وسبب وجودها.
الإهتمام بالشق المعيشي يعني بعبارة بسيطة تأمين حاجات المواطن الأساسية من طعام وأدوية وطبابة ومحروقات وتعليم. هذه الحاجات هي أساسية لكي يعيش الإنسان بكرامته. هذا الأمر هو أساسي مع رفع الدعم شبه الكامل في منتصف الشهر الجاري وبالتالي لا إمكانية لإنتظار أية حلول متوسطة أو بعيدة الآمد. وهذا الأمر يفرض تأمين دولارات للإستيراد ووقف الإحتكار والتهريب في وقت قياسي لا يتخطّى عدّة أيام، لذا نرى من الضروري القيام بخطوات ضرورية على سبيل المثال لا الحصر :
أولا – الطلب من المصدرين إعادة دولاراتهم إلى القطاع المصرفي اللبناني وهو ما يتطلّب من الحكومة ضمان حرية تنقل هذه الأموال في كل مرّة يُريد أصحابها إستيراد مواد أولية. بالطبع، مع الإشارة إلى إمكانية الاستفادة من مبلغ الـ 860 مليون دولار أميركي حصة لبنان من برنامج صندوق النقد الدولي والتي يُمكن اللجوء إلى قسم منها إذا ما تمّ تأخير تنفيذ الإجراءات.
ثانيًا – ضرب الإحتكار والتهريب عبر إعطاء القوى الأمنية والجيش مُهمّة مكافحة هذه الظواهر التي ترفع الأسعار وتُفقد السوق من الدولارات.
هاتان الخطوتان كفيلتان بحلّ المُشكلة مبدئياً أو بمعنى آخر فرملة التدهور الحاصل قبل بدء التفاوض مع صندوق النقد الدولي وهو ما سيؤمّن حلاً مستدامًا من خلال حل مُشكلة الدين العام، والمالية العامة كما وإعادة جذب الإستثمارات بهدف تشجيع الإقتصاد.
بالتوازي مع ذلك، إن التفاوض مع صندوق النقد الدولي والذي أصبح شرطا لأي مساعدة خارجية، هو الخطوة الثانية التي يتوجّب على حكومة الرئيس ميقاتي القيام بها. عمليًا، هناك إلزامية لوضع رؤية واضحة لموضوع التفاوض وإستراتيجيته والذهاب إلى المفاوضات برؤية موحدة، لأن غياب هذا الأمر يعني أننا سنقع في نفس المُشكلة التي وقعت بها حكومة الرئيس حسان دياب. لكن الأساس في هذه العملية أن لا تكون خطة الرئيس ميقاتي مبنية على خطة حكومة دياب والتي تنصّلت من كل ديونها وحمّلتها إلى القطاع المصرفي وكبار المودعين. الخطأ الكبير الذي تمّ إرتكابه هو وقف دفع سندات اليوروبوندز (وهي أموال اللبنانيين بالدرجة الأولى) بالإضافة إلى الدعوة إلى تصفير رأسمال مصرف لبنان والقطاع المصرفي. هذا الخطأ المنهجي إنسحب على ثقة الأسواق – والأهم ثقة الناس – بالقطاع المصرفي مما أدّى إلى تحويل مُشكلة السيولة إلى مشكلة ملاءة. ولا نعلم إذا كانت حكومة الرئيس حسان دياب على علم بأن القوانين تعفي المصارف من إلتزاماتها تجاه المودعين في حال إفلاسها! من هذا المنطلق، كيف يُمكن تصفير رأسمال المصارف بدعوى المحافظة على أموال المودعين؟ إن حاكم مصرف لبنان تعهّد في إحدى مقابلاته التلفزيونية بعدم السماح بإفلاس أي مصرف، وبالتالي يتوجّب إعادة إحياء هذا القطاع مع محاسبة كل من تجرأ من خلال قراراته المتهورة إلى جر البلاد إلى المستنقع الحالي.
هدف صندوق النقد الدولي من التفاوض مع الحكومة هو مساعدة لبنان للخروج من أزمته، لكن هذه المساعدة مشروطة بتحقيق ثلاثة أهداف:
الهدف الأول: فتح لبنان أمام التجارة الدولية من خلال تعزيز الصادرات وتسهيل الإستثمار الأجنبي المباشر؛
الهدف الثاني: وضع سياسة نقدية (Monetarism) لسعر الفائدة وذلك من خلال البنك المركزي على أن يكون مستقلاً عن الحكومة، ومحاربة التضخم المالي. وهو ما يعني أن المال يُصبح مُحايدًا في اللعبة الإقتصادية وتنسحب الدولة من الفضاء الإقتصادي وهو ما يعني تعزيز الليبيرالية.
الهدف الثالث: إستبدال التنظيم العام بتنظيم السوق من خلال إعتماد آليات السوق (حوافز بأسعار السوق والخصخصة).
هذه الأهداف الثلاثة سيتمّ ترجمتها عمليًا بإجراءات (تُسمّى إجماع واشنطن) ومن المتوقع أن يشترطها صندوق النقد الدولي من أجل مُساعدة لبنان والتي يُمكن تصنيفها في ثلاثة خانات: التحرير، والخصخصة، وإلغاء الضوابط. وهذه الإجراءات هي:
أولاً – وضع موازنة تحوي على إجراءات مالية تُخفّض العجز إلى أقلّ من ٢٪ من الناتج المحلّي الإجمالي ويكون فيها الإنفاق العام موجّها نحو الأنشطة التي تعد مصدراً للعوامل الإيجابية مثل الصحة والتعليم والبنى التحتية؛
ثانيًا – خفض الضرائب على الإستثمارات بهدف تشجيعها وتخفيف العبء عن المقيمين مع ضرورة الأخذ بعين الإعتبار البند الأول؛
ثالثًا – ترك تحديد أسعار الفائدة للسوق أي بحسب مبدأ العرض والطلب ومنع أي تدخل من خارج آليات السوق؛
رابعًا – إعتماد سعر صرف حرّ أو مرن في أقل تدبير وترك السوق يُحدّد هذا السعر بحسب آلية العرض والطلب مع القبول في المرحلة الأولى بسعر صرف حرّ موجّه على أن لا تتخطى المدة الزمنية مُدة الإصلاحات؛
خامسًا – رفع كل الإجراءات الحمائية التي تُشكّل عائقاً أمام التبادل التجاري العالمي وهو ما يعني ضمّنًا دخول لبنان إلى منظمة التجارة العالمية وما يرافق ذلك من كسر للإحتكارات على كل الأصعدة (سلع وخدمات)؛
سادسًا – جذب الإستثمار الأجنبي المباشر بهدف تعظيم حجم الإقتصاد وزيادة الرخاء للمواطن اللبناني؛
سابعًا – إعتماد الخصخصة وذلك بهدف تقليص عجز الموازنة وزيادة الثقة بآليات السوق من خلال الهيئات الناظمة؛
ثامنًا – تحرير آليات السوق بالكامل من أية قيود وتشكيل هيئات ناظمة قطاعية لتأمين هذه الغاية؛
تاسعًا – ضمان حقوق الملكية الخاصة (وهو ما ينطبق على أموال المودعين في المصارف)؛
عاشرًا – إعتماد المكننة كعنصر أساسي لمكافحة الفساد وتأمين الخدمات العامة بدون إستنسابية أو رشاوي؛
في الواقع، منهجية صندوق النقد الدولي تعتمد على تقييم الإرادة الفعلية لدى المسؤولين في البلد موضوع المساعدة على القيام بإصلاحات من أجل تحقيق الأهداف الآنفة الذكر. وإذا كان صحيحًا أن الصندوق لا يفرض شيئًا على الحكومات، إلا أن الوصول إلى المساعدة يمرّ إلزاميًا بتحقيق شفافية وفعالية في السياسات الحكومية وإلا سيُقفل الصندوق أبوابه، إذ هو ليس مؤسسة خيرية.
يُمكن القول أن مصرف لبنان – الممثل الرسمي للبنان لدى صندوق النقد الدولي – ووزارة المال هما على تواصل مُستمر مع الصندوق من خلال عمليات التقييم التي يقوم بها الصندوق للبنان. وبالتالي، فإن هذين الطرفين هما أساسيان في أية مفاوضات. وإذا كانت المرحلة الراهنة في لبنان تفرض إجراءات ذات طابع إجتماعي – عادة لا يدخل فيها صندوق النقد بل هي من مهام البنك الدولي – فإن إشراك وزارات أخرى في عملية التفاوض قد يكون ضروريًا. إلا أن ما يجب معرفته أن صندوق النقد يتعامل مع مالية الدولة بالدرجة الأولى وبالتالي وجود أفرقاء أخرين هو من باب الضرورة التي تفرضها الأوضاع المعيشية الحالية والرغبة لدى الصندوق بتأمين إستخدام فعال للأموال التي ستدّخل البلاد.
إذا وبحسب نتيجة التقييم المشترك بين الحكومة اللبنانية ومصرف لبنان من جهة، وصندوق النقد الدولي من جهة أخرى، يتمّ التوافق على برنامج يحوي على شقّين:
الأول – ويتعلّق بخارطة طريق للإصلاحات والإجراءات التي ستقوم بها الحكومة اللبنانية والتي ستضعها بنفسها من دون أية ضغوطات عليها من صندوق النقد الدولي؛
الثاني – يتعلق بجدول المساعدات التي سيقوم بها صندوق النقد الدولي والمرهونة – أي كل دفعة – بتنفيذ الإصلاحات التي تعهدت الحكومة القيام بها.
يبقى القول أن هناك عدة ملفات ستكون من دون أدنى شكّ حامية، نذكر منها:
الملف الأول – قطاع الكهرباء والذي تعتبره المؤسسات الدولية أولوية قصوى ويجب إصلاحه. من هنا نتفهّم الخطوة التي قام بها الرئيس ميقاتي من خلال الإتصال بالكويت لإعادة تفعيل قرض تم توقيعه في 4 \ 2 \ 2013 بقيمة 445 مليون دولار أميركي لتأهيل 3 وحدات في معمل الجية (330 ميغاواط) و4 وحدات في معمل الذوق (600 ميغاواط) والذي تمّ إلغاؤه بسبب الخلافات السياسية الداخلية.
الملفّ الثاني – هو القطاع المصرفي والذي نرى فيه إنقسامًا حادًا داخليًا. فمن جهة هناك من يطالب بفكفكة القطاع المصرفي (خطة حكومة دياب) والبدء بخمسة مصارف جديدة، ومن جهة أخرى هناك من يطالب بإعادة تفعيل القطاع المصرفي مع إجراء الإصلاحات اللازمة ومحاسبة المرتكبين، وهو أفضل بكثير من الرأي الأول
الملف الثالث – هو ضبط التهريب عبر الحدود والذي يفرض ضبط خروج السلع والبضائع بطريقة غير شرعية عبر الحدود. لكن لهذا الملف أبعاد أخرى حتى ولو أن صندوق النقد الدولي لا يشترط أي إجراءات لها علاقة بالسياسية.
الملف الرابع – هو ملف الخصخصة والذي سيكون مطروحًا على الطاولة بقوة نظرًا إلى فشل العديد من المؤسسات العامة في تأمين الخدمات كما يجب إلى جانب تحقيقها خسائر ملحوظة على مرّ السنين.
الملف الخامس – هو ملفّ القطاع العام والذي سيكون سببا لتشكيل جبهة إعتراض داخلية مثل ما حصل في العديد من الدول الأخرى على مثال اليونان.
في الختام، الإستحقاق الأول – أو الامتحان الأول – لحكومة الرئيس ميقاتي يحل منتصف هذا الشهر مع رفع الدعم، فهل تنجح الحكومة في إجتماعها الأول اليوم في الخروج بحلول تُوَطّئ إلى إجراءات تُخفّف عبء الأزمة عن كاهل المواطن اللبناني؟
اليوم الأول حاسم من عدة أوجه، إذ إن الانطباع الذي ستخلفه من خلال إجتماعها وتجانس أعضائها والنظرة الموحدة إلى عظم المسؤولية الملقاة على عاتقها، إلى جانب تقبل الأمانة بمسؤولية وطنية وأخلاق مهنية، هي الأمور الأولية التي تؤسس إلى نجاح العمل الجماعي بعيداً عن الشعبوية والطائفية والمصالح الضيقة التي أوصلت البلد إلى ما وصل إليه.